مقالات نورا عبد الفتاح

إنتى سنانك معوّجة


وجدت بوست على الفيسبوك يحكى عن؛ رجل إنتهت إجازته وركب الطائرة عائداً إلى بلده، بجانبه امرأة مسنة تدل هيئتها ولباسها على أنها ريفية، في الطائرة قاموا بتقديم وجبات الطعام ومع كل وجبة قطعة حلوى بيضاء.
المرأة المسنة فتحت قطعة  الحلوى و بدأت تأكلها بقطعة خبز ظناً منها أنها قطعة جبن بسبب لونها الأبيض.

وعندما اكتشفت أنها حلوى شعرت بإحراج شديد ونظرت إلى الرجل الذي بجانبها، فتظاهر بأنه لم يرَ ما حصل.
ثوان قليلة،
وقام الرجل بفتح قطعة الحلوى وقام بما قامت به المرأة المسنة تماماً فضحكتْ المرأة، فقال لها : سيدتي لماذا لم تخبريني أنها حلوى ظننتها قطعة جبن،  فقالت المرأة : وأنا كذلك كنت أظنها جبن مثلك !!

بالتأكيد كان يعرف أنها ليست جبن ، ويعرف أنها رحلة وتنتهي ،
ويعرف أنها مجرد امرأة مسنة وبسيطة، ولكنه أبى إلا أن يتركها لحرجها أو ينظر إليها نظرة متدنية تجرح شعورها وتقلل من شأنها وتؤثر على صورتها الذاتية وصورتها أمامه.

أنا أعشق سورة الهمزة من القرءان الكريم، وأشعر أنها واحدة من مئات الأدلة على وقوف الله بجانب المنكسرة قلوبهم والمنكسرة خواطرهم وكل من يشعر بالحرج والخزى بلا ذنب، وإنما خزيه وانكساره مصدره الهمز واللمز والإيذاء المتعمد أو كما نقول فى العامية ( كسر الخواطر ).

فأحدهم يقول لشخص كلمة أو كلمات ثم يذهب فى سبيله أو عمله أو دراسته وكأنه لم يفعل شيئاً، بينما الذى سمع الكلمة أو الكلمات قد فسد يومه وتعكر مزاجه واضطرب عمله أو اضطربت دراسته وتأثرت علاقاته وجعلته منطوياً، واهتزت صورته الذاتية أمام نفسه ربما للأبد، لذلك أفرد الله لهذا سورة فى القرءان يتحدث فيها عن عقوبة الهمز واللمز أو ما نسميه وتسميه المنظمات الدولية ( التنمر ).

نعود لسورة الهمزة بشرح تفاصيل تسعدنى بشدة وتهدئ من إشفاقى الشديد تجاه كل من يتم التنمر عليه ويكتم شعوره وردوده وهو يغلى من الداخل، بأن العقاب ينتظر الجانى، وهذا ما يدفعنا للصبر على كل العلاقات المؤذية فى كل مكان.

نزلت سورة الهمزة فى رجل يدعى الأخنس بن شريق؛ كان هذا الرجل يقوم بالتنمر والسخرية على سيدنا رسول الله وكان عنده قدرة متميزة على إضحاك الناس على الشخص الذى يسخر منه أو يتنمر عليه أو يهينه فى تجمعات، وكان مبدعاً فى هذا الأمر ومتجدداً وخفيف الظل فكان ينصت له معظم الناس، المهم أنه كان مؤذياً لسيدنا رسول الله والمسلمين بالكلام والأفعال، فنزلت السورة تقول عنه وعن أمثاله :

(ويل لكل همزة لمزة)؛ أى أن هؤلاء الذين يمارسون الهمز بلغة الجسد أو الحركات أو النظرات التى تنتقص أو تؤذى الآخرين، والذين يمارسون اللمز بالكلام المؤذى أو الجارح والمهين الذى يؤثر بالسلب على نفسية الغير، ينتظرهم الويل أى العقاب الشديد، وفى تفسير آخر أن الويل مكان فى إحدى دركات النار.

(الذى جمع مالاً وعدده)؛ فقد كان الأخنس بن شريق لديه الكثير من المال الذى يقوى من مكانته بين الناس ويساعده فى التجاوز وتخطى الحدود بأريحية وثقة.

( يحسب أن ماله أخلده )؛ وهذا على حد فهمه القاصر.
( كلا لينبذن فى الحطمة )، أى سيكون منبوذاً فى الحطمة وهذه الحطمة والتى تتضح فى الآية التالية ( نار الله الموقدة ) أى نار مشتعلة بالفعل، هى تجهز(الآن) منذ نزلت السورة، ثم ( التى تطلع على الأفئدة) فسيصل إيذائها للقلوب فستخترق الأجساد وتصل إلى القلوب، ثم ( إنها عليهم مؤصدة ) ؛ أى مغلقة الأبواب لا يستطيعون الخروج منها، ( فى عمد ممددة )؛ أى الأعمدة التى تُقفَل بها الأبواب ممددة من أول الباب إلى آخره. 

هل هدأت عندما علمت ما ينتظر المتنمرون عند الله ؟

فى طفولتى كان هناك شخص يقول لى بشكل يومى ( إنتى سنانك معوجة )، وكنت أتأثر بشدة وأفقد القدرة على السيطرة على الموقف وأبكى، ومرت السنوات وأصبحت لا أتأثر بأى تعليق على أسنانى أو على غيرها، وبعد قراءاتى فى علم النفس أصبحت أشفق عليهم من سوء نواياهم التى تحركهم طوال الوقت، ومن عقاب الله الذى ينتظرهم.

المهم؛ أننى كبرت وتصالحت مع أن أسنانى غير منتظمة وعشت حياتى منذ الطفولة وحتى بلغت ال 38، وكنا ذات مرة فى زيارة طبيب الأسنان الذى نتعامل معه منذ كنا أطفالاً ويعلم باعوجاج أسنانى القديم.
وكان إبنى يلح على فى أنه يريد أن يركب تقويم أسنان لأن بعض أسنانه غير منضبطة فى مكانها، فسألت الطبيب عن زميل له متخصص فى تقويم الأسنان، فقال لى أنه( مش محتاج )، إنتظرى إلى عمر السادسة عشرة وستنتظم تلقائياً، فقلت له ( لاء، هو متضايق من الموضوع، وأنا عايزة أريحه، علشان ميجيلوش عقد زيي، علشان أنا طول عمرى كانت سنانى معوجة وكنت متضايقة من كدا ).

فأجابنى بمنتهى السرعة والبساطة ( يا شيخة روحى، يعنى هى لسه معوجة لحد دلؤتى ؟؟؟؟؟)

فلم أرد وذهبت إلى أحد المرايا فى عيادة الطبيب لأنظر على أسنانى فأراها معتدلة للمرة الأولى وأجدها (مش معوجة ولا حاجة)، وإنما اعتدلت بنسبة 96%، وأنا لا أعلم، وقد رسمت لنفسى صورة عن أسنانى أنها معوجة وأغلقت عقلى على ذلك. 

وهذا ما يحدث مع كل من يتم السخرية منه والتنمر عليه، فتتغير الصورة الذاتية التى يرى عليها نفسه، فقد تفقده الثقة فى نفسه إلى الأبد إذا جاءت السخرية على شكله أو مستواه المادى أو ذنب ارتكبه ويرجو نسيانه وتخطيه، أو فشل ما أو إخفاق عاشه فى وقت ما، ألا يستحق هؤلاء المتنمرون العقاب الوارد فى سورة الهمزة ؟

أسوء ما يمكن أن يحدث لشخص أن يكون الهمازون واللمازون أبويه أو أحد أبويه، فتكون حياته كلها إهانات وأوجاع وتجريح ومقارنات وتذكير بالماضى ووضع فى مآزق إجتماعية، حتى وإن كان تصورهم أن هذا فى مصلحته، إلا إن هذا يصيبه فى مقتل.

وهذه عقوبة كل من يكوّن صورته الذاتية بناءاً على ما يراه الناس عليه، فلا يسلم من أذاهم.

طوبى لكل من وجد ضعفاً فى شخص ووجده فى موقف إحتياج أو استكانة فجبر خاطره كما فعل الرجل مع السيدة العجوز التى حكى عنها بوست الفيسبوك، ولم يفعل العكس !

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع