علم نفسمقالات نورا عبد الفتاح

الكلام الفاضى والكلام المليان

مقال اجتماعى


أتصور دائماً على سبيل الخيال أن عقولنا مكونة من مكونين افتراضيين اثنين لا ثالث لهما؛ هما الكلام (الفاضى) والكلام (المليان).

الكلام الفاضى هو بالفعل فارغ من الداخل؛ حوارات طويلة وقصص وسرد لمواقف كان حرى بها أن تُنسى وتمر بلا ذكر كلمة واحدة عنها.

كساعة من عمر اثنين يقضيانها فى إعادة حكى موقف تم وانتهى أو خلاف نشب بين اثنين من زملاء العمل أو اثنين من الجيران أو أى اثنين خلقهما الله.
فوقف اثنان وقد تركا أعمالهما ومهامهما أو دراستهما وطفقا ( يهريان) فى إعادة حدث تم وانتهى وتبعته عشرات الأحداث والمواقف, وليس بوسعنا إلا أن ندعه ينتهى ( ونشوف حالنا).
لا أن نضيع وقتنا فى (فلان قال كذا والتانى بصله ورد عليه وقالله كذا)

لاحظ أن هذا الوقت الضائع يبدأ من خمس دقائق وحتى ساعة من الزمن ستون دقيقة ويزيد٠

هل تتصور أن يضيع من عمر شخصين أو أكثر ستون دقيقة فى إعادة ذكر حادثة أو موقف؛ مجرد إعادة فيكون الحدث الأول رغم تفاهته أخذ حظه من الزمن مرة وقت وقوعه ومرات عديدة مع كل اثنين يعيدون سرده.

ومع كل تكرار ومع ( التاتش بتاع كل واحد) تجد الزمن يزيد وتطول السلسلة.

وفى هذا يشترك النساء مع الرجال، وإن زاد ميل النساء إليه عن الرجال بعض الشئ ولكن الرجال متورطون وبشدة.

قد يكون الكلام الفارغ أيضاً حوارً ترددياً بحتاً لا يسمن ولا يغنى من جوع؛ هو مجرد أى كلام ( وخلاص).
مثل؛ ماذا ألبس أو ماذا أفعل يوم إجازتى الأسبوعية أو هل أتصل بفلان أم لا، هل أشترى كذا أم لا ؟

حديثاً مفعم بالاهتزاز، يأخذنا إلى الضغط النفسى ونفاد الصبر والحسرة على الوقت الذى ضاع.

الكلام الفارغ قد يكون حواراً تشاؤمياً من نوعية؛
” أنا هيمشونى من الشغل علشان اقتصاد البلد منهار”، ” أنا هاسقط فى المادة كذا علشان صعبة جداً”،” أنا عمرى ما هاشوف يوم عدل، أنا وش فقر, أنا عمرى ما هانفع فى حاجة”.

لا أقول كان الأفضل لهولاء استبدال هذه العبارات بعبارات أخرى أخف حدة وأكثر تفاؤلاً.
مثل” أنا هاجتهد فى شغلى والباقى على ربنا “
“أنا هاذاكر والباقى على ربنا”.
” ربنا قادر يحققلى أحلامى كلها”

وإنما أقول أن السكوت لمثل هؤلاء أفضل من أى كلام.

أما الكلام ( المليان)؛ فهو كلام عن تنمية إنسان لنفسه فى مجال عمله، الكلام فى الدين، الكلام فى منهج دراسى، الكلام فى موقف أخلاقى بهدف التأكيد على فكرة الخير ونبذ الشر، الكلام فى صميم عمل مخلوق ما؛ مهندساً كان أو معلماً، جامع قمامة أو طبيباً، سباكاً كان أو عالم ذرة، المهم أنه حديث متخصص يهدف لمنفعة من نوع ما.

ونحن لسنا بحاجة للتأكيد على العلاقة العكسية بين هذين المكونين؛ فكلما زاد الكلام الفاضى قلّ المليان والعكس بالعكس.

ذات مرة أيام أن كنت أشاهد التلفاز؛ كنت أشاهد برنامجاً دينياً من هذه البرامج التى يكون مقدمها شيخاُ أو داعية؛ يتصل الناس به عبر الهاتف يسألون أسئلة يفترض أن تكون دينية.

وإذا بامرأة متوسطة العمر تتصل بالبرنامج وتسأل الشيخ آخذة فى سرد تفاصيل وقصص وحكايات طويلة فهمت منها أن ( الموضوع فيه أنبوبة)، ولم أفهم أكثر من ذلك ( وغلاوتك عندى)، وإذا بالشيخ ينفجر نافداُ الصبر ويقول لها على الهواء؛ ” فين السؤال يا ستى، انتى عارفة فيه كام واحد بيسمع معانا قصة الأنبوبة ؟ “


كيف تكون حكاية بطلتها أنبوبة غاز، تسيطر على إنسان لدرجة تجعله يتصل ببرنامج تليفزيونى يحكيها فيه، ماذا فعلت إذاً مع زوجها أو جيرانها وأولادها بشأن الأنبوبة الخطير ؟

وأذكر كذلك فى برنامج آخر كان الضيف فيه طبيبة نفسية أحبها كثيراً، وإذا باتصال هاتفى من شابة عشرينية تتصل بالبرنامج وتود أن تسأل سؤالاُ، كان له عدة مقدمات وليست مقدمة واحدة، عدة عقد وليست عقدة واحدة كما تعلمنا، ولكن الخاتمة لم تتبلور وتكتمل، حيث قاطعتها الضيفة موجهة كلامها للمذيعة؛ ” والله الكلام ده بيوجع قلبى”.

كان بطل قصة الشابة هى أخت زوجها التى أخذت نسخة من مفتاح شقتها وتأتى إلى الشقة فى وجودها وفى غيابها دون مراعاة حرمة بيتها وأنه خاص بها والآن هى تريد أخذ هذه النسخة من المفتاح حتى تحل هذه الأزمة.
أما بالنسبة للضيفة الطبيبة التى قاطعتها قائلة” والله الكلام ده بيوجع قلبى”، فلقد فهمته فهماً مقلوباً؛ فقد كنت أتخيل أن الطبيبة ( قلبها بيوجعها) على الشابة قليلة الحيلة فى عدم قدرتها على التصدى لأخت زوجها الشريرة.
ولكن بالعكس ( أبسلوتلى)، بل انفجرت بدورها قائلة؛


( يعنى احنا عايشين مع ناس أهم حاجة بتشغلهم انهم يدخلوا شقق ناس تانية غصب عنهم وناس تانية مبتعرفش تحل مشاكلها لوحدها وأهم حاجة فى حياتهم انهم ياخدوا المفتاح من الناس الأولانيين”.
من فضلك غيرى السؤال.

هناك عقول لا تحتمل الكلام الموزون المحسوب العميق المقصود؛ الذى يناقش أفكار كبيرة وقضايا واضحة وجوهرية فهذا بالنسبة لهم شئ شاق وباب للمشاكل ( وقلبة الدماغ)،ويستهلك طاقتهم دون جدوى من وجهة نظرهم, وإنما الأقرب إليهم والأفضل عندهم هى مواقف منفردة حدثت هنا أو هناك ليس للخروج بحكمة أو موعظة وانما لغرض السرد بغرض ( الهرى ) محض ( هرى) و( اهو كله دردشة لحد ما العمر يخلص).

وهناك آخرون على الجبهة المقابلة لا يتحملون ( الهرى)، إنما يصيبهم بالغثيان، فإما يتحدثون حديثاً هادفاً يبغون منفعة من ورائه وإلا ( فبلاه حديث) ولنستمتع بالهدوء والصمت ونريح آذاننا ورؤوسنا.

وبين هؤلاء وهؤلاء والذين يؤرقون بعضهم البعض بغير قصد من الطرفين؛ تستمر المعارك, فلا التافهون يقبلون بملأ أدمغتهم بما ينفعهم وينفع غيرهم ولا العاقلون يستطيعون الانصياع لهؤلاء الفارغين من الداخل.

(وأدينا عايشين).

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع