المغلولون والأحرار
تبدو القواعد والمبادئ والضرورات والفروض التى نطوّق بها رقابنا ونغلّ بها أيدينا وأرجلنا وكأنها الصخرة التى تتحطم عليها العلاقات، فكل طرف متمسك بقواعده، وينتهى عندها الإتفاق والتقبل؛ فكل طرف غير متقبل لمبادئ الآخر، ويتحطم عليها هدوء البال والسلام الداخلى، فالهدوء والسلام لا يتأتى إلا بتطبيق هذه القواعد وأصحابها لا يقوون على تطبيقها فى ظل الاختلافات والاختلالات.
ولكن هذه التعاليم والعادات والأسس تمثل لأصحابها البوصلة؛ تنسق سلوكهم وترتب فوضاهم وتوضح ملتبسهم وتظهر لهم الخفى وتجذب لهم الإكتفاء وتحدد الحقوق وتشارك فى إتخاذ القرارات.
هل يغلب كون هذه التعاليم والمعايير كونها صخرة تتحطم عليها فرصهم وينهار أمامها سلامهم الداخلى، أم يغلب كونها البوصلة التى توجههم فى كل صغيرة قبل كل كبيرة ؟
هل يمكن التخلى عن المبادئ والعيش هكذا بدونها ؟
نعم، فهذا يحدث بالفعل مع كثيرين.
هل تستقيم الحياة بهذا الشكل ؟
بالطبع لا، ولكنها تسير.
هذه الضرورات والقوانين منبوذة من أصحابها لأنها تسبب لهم قلقٱ وضغطٱ لأنها فى الغالب صعبة التنفيذ، وتمثل لهم ضغطٱ إذ أنهم هم الذين فرضوها وقرروها وألزموا أنفسهم وألزموا غيرهم بها وأرغموا الجميع عليها وأوجبوا تنفيذها وجعلوها شرطٱ فى كل عقد.
ربما كانت هذه الفروض فى زمن مضى مبعثٱ للفخر لأصحابها، تنير لهم الطريق، تساعدهم فى إيجاد أشباههم، تشبع شغفهم تجاه شئ جميل، تعطيهم الثقة والرضا والراحة وأشياء أخرى.
ولكنهم وبعد أن مضى الزمن، إنتبه هؤلاء إلى إن مبادئهم هذه قد أفقدتهم أناسٱ تعلقوا بهم، وأضاعت عليهم فرصٱ كانوا يتمنونها، وسهلت على آخرين ممارسة قهرٱ عليهم وقطعت علاقات كانوا يتمنون لها أن تستمر.
وأضف إلى ذلك أنهم يحاربون فى جبهات متعددة؛ فى معارك مع أناس متحررون من هذه المبادئ وأحرارٱ من غير عبء أو ثقل.
أصبحت هذه القواعد والتعاليم أطواقٱ فى رقابهم وأغلالٱ تغلّ أيديهم وأرجلهم، وهم فى خضم معارك طوال الوقت مع أعداءٱ خفافٱ من كل قيد، بلا إلتزام تجاه أى شخص وأى شئ.
يعيّرهم هؤلاء الخِفاف من كل مبدأ بثقل القيود وبضيق السجن الذى سجنوا أنفسهم داخله، ويذكّرونهم بأن هذه الأغلال ستفشِل كل مساعيهم وتضيع عليهم الفوز فى كل سجال.
وبعد أن كانت هذه القواعد تشد على أيديهم وتقوى مواقفهم وتدعم آرائهم، أصبحت قيدٱ ضيقٱ، يسبب لهم الأذى الدائم والألم المزمن.
ومع هذا الشعور بالقهر والأذى الدائمين، وهم يشاهدون المعسكر الحُر سعيدٱ هانئٱ مستمتعٱ بنعيم الدنيا، ناجحٱ فى علاقاته، يجد الراحة الكاملة، بينما هم لا يزالون يتأذون مكبلون فى أغلالهم، التى ألزموا بها أنفسهم، لا هى أراحتهم وقوّت شوكتهم كما كانت تفعل فى السابق، فالآن المعارك مع صنوف جديدة لم تؤهَل لها من قبل، ولا هى سهلة الفك فيتخلصون منها ويتحررون مثل هؤلاء المتحررون، فلقد أصبحوا هم وهذه المبادئ كيانٱ واحدٱ.
لقد نجح الخِفاف المتحررون من القواعد والثوابت فى تنفير أصحاب القيم من قيمهم، نجحوا فى تنفير أصحاب القيم من أنفسهم، حتى كرهوا القيم التى كبلتهم وضيقت عليهم الآفاق، كما كرهوا أنفسهم ومنهج تفكيرهم الذى أخذهم إلى هذه النقطة من الحيرة أمام مفترق طرق !