مقالات نورا عبد الفتاح

مش مجنون ومش أخرس



سأحكى لك قصة ثانوية مختصرة،قد لا تهمك فى قليل أو كثير ولكنها مقدمة هامة للقصة الرئيسة، منذ حوالى يومين كنت فى زيارة لبيت أبى وأمى وكنت أبحث عن مطلب معين يتعلق بالمواد الغذائية فى محيط بيتى ولم أجده وفكرت أن أبحث عنه فى محيط بيت أبى، ربما يكون هناك.

المهم؛ قبل أن أنزل عرفت أن طلبى هذا متواجد فى سوبر ماركت معين، وتم وصفه لى بدقة ولكنى لم أعرف بالضبط، وكان هذا الوصف فى حضور أبى وأختى، فقالت أختى ” آاااه الراجل المجنون”، فقال لها أبى” لا لا مش مجنون ولا حاجة”.

لا أخفى عليك أننى عرفت المكان بمجرد سماعى عبارة “الراجل المجنون”, لأننى منذ طفولتى وأنا أرى صاحب هذا المحل أو الشخص الذى يبيع فيه، غريب الهيئة، ملابسه فى الواقع غير نظيفة، أشعث الشعر وتعلوه الأتربة أو بودرة بيضاء أو رمادية من نوع ما، لم أره يتكلم قط طوال حياتى، كلما مررت من هناك أجده صامتا، حتى وهو يتعامل مع عملائه.

وحقيقة كنت أخشى أن أشترى منه شيئا، خوفا من أى سلوك غريب يصدر عنه على اعتبار أنه مجنون وعلى أساس هيئته المليئة بالغرابة والقذارة، التى لا تتفق مع هيئة أصحاب المحلات أو الباعة فى حى المعادى بوجه عام، فأغلبهم حسن المظهر، حلو الكلام ،مهذب الطبع، نظيف الملابس، بشوش الوجه، لا يشبهون هذا الرجل مطلقا.

عرفت المكان وذهبت لشراء طلبى، وصلت الى المكان ولم أكن أركز معه أو رأيته جيدا منذ سنوات؛ وجدت رجلا بين الشباب والكهولة، حلق شعره الطويل الذى كان لا يحلقه إلا كل حوالى عدة شهور بل سنوات، تغيرت هيئته كثيرا للأفضل ولكنه هادئ كما هو، مما أعطانى انطباعا أن فكرتى وفكرة أختى عنه صحيحة وأن نفى أبى عنه وصمة الجنون، إنما من باب الأدب وحسن الخلق لا أكثر ولكنه يعلم بجنونه جيدا، خاصة وأنه لا يعطى أى إيماءة أو ردة فعل بأى جارحة من جوارحه فى المطلق.

لم أطلب طلبى وانما وجدته بجوار الباب فأخذته وأظهرته له ودفعت الثمن وأنا أهمهم بكلام فارغ، يصب فى أننى أريد هذا الشئ وهذا ثمنه.

فأخذ النقود وطلب منى بكلام غير واضح أن آخذ المزيد لأنه ليس لديه (فكة) ليعطينى الباقى، ولم يكن الباقى قليلا وأجبرنى على شراء زيادة عن حاجتى لأنه لن يعطينى الباقى، وبسبب فكرتى القديمة قلت”مش مشكلة ما هو مجنون، ومش سامعة كلامه واضح لأنه أخرس”، وأخذت الزيادة وذهبت لأريه العدد حتى يتأكد من أنه يتناسب مع الباقى، قبل أن أنصرف.

وكانت المفاجأة؛ لقد تكلم ولأول مرة أسمع صوته منذ طفولتى، والمباغتة الأقوى أنه قال لى ” عيب عليكى”.
تباغتت لدرجة أننى تصورت أننى لم أسمع جيدا، فقلت له ” نعم؟”, فقال لى مرة أخرى”عيب عليكى”، فهو مفترض أنه مجنون وأبكم، كيف يعرف الأصول هكذا؟؟؟


لقد كان يقصد؛ أنه من العيب على؛ أن أريه ما أخذت لأن هذا دليل على إرتيابه وشكه فى أمانتى، وهذا لم يحدث بالطبع، شعرت بأننى أمام شخص مظلوم ومقهور ومصنف ظلما بالاختلال العقلى، ولكنه مهذب وهادئ ويفهم فى الناس جيدا، حيث أنه لا يصح أن يشك فى أشخاص يبدو عليهم الأمانة مثلا أو هذا ما تصوره عنى.

كما خطر ببالى أنه من الممكن أن تكون فكرتى عنه، هى فكرة فى عقول الكثيرين من سكان المنطقة، حيث هو فى الغالب خالى من الزبائن، ودليل ذلك أنه ليس لديه(فكة) مع أننا ساعتها، كنا فى حوالى التاسعة مساءا وأزمة (الفكة) تكون فى ساعات الصباح المبكرة فقط كما تعلم.

إبتسمت وذهبت وشعرت بالأسى ليس بسبب العيب الذى ارتكبته من وجهة نظره؛ وهو أننى تصورت أنه قد يرتاب فى أمانتى وانما على عيبى الحقيقى؛ وهو أننى طوال سنوات عدة، كنت أرسخ فى ذهنى فكرة أنه مجنون دون أن أتبين كما تبين أبى وعرف انه” مش مجنون ومش أخرس”، وخطر ببالى سؤال؛ لو أننا نقول عليه مجنون وأبكم وهو ليس كذلك، ماذا يقول هو عنّا وهو يعلم تمام العلم، أن الناس جميعٱ متخذون منه موقفٱ سلبيٱ دون أى جريرة من جانبه ويستمر فى التعامل معنا مع علمه بجهلنا وسوء أدبنا ؟

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع