مقالات نورا عبد الفتاح

كان الكلب متيمٱ بى



بادئ ذى بدء ؛ أود أن أعترف بأعلى صوتى، أننى كنت معادية تماما لمبدأ وجود كلب فى حياتنا بوجه عام وفى بيتى بوجه خاص، ولكن لسبب غير واضح لى حتى الآن، إمتلكنا كلبٱ لمدة عامين تقريبا.

فى الستة أشهر الأولى حاولت بكل السبل التخلص منه سلميا، باقناع زوجى وأبنائى بأن يهبونه إلى أى قريب أو غريب أو شخص يسير فى الطريق، فرفضوا جميعا بحجة ” انه حرام عليكى، ده غالى ،هنرمى الفلوس فى الأرض؟”.

فحاولت إقناعهم جميعا، ببيعه للقريب أو الغريب أو الرجل الذى كان يسير فى الطريق فى الفقرة السابقة، فأظهروا تمثيليٱ أنهم يحاولون بيعه ولكن لم يجدوا مقابل مناسب يستحقه بعد، وأنهم ينتظرون أعلى سعر.

إنتظرت على أمل التخلص منه ومن مشاكله التى سببها من رعب للجيران وللأقارب، ولى شخصيٱ بصوته العالى وعنفه الشديد وحجمه الكبير، حتى ذهابنا وإيابنا وسفرنا، كان يتحدد بمدى إمكانية إصطحابه معنا من عدمها، فالمكان الذى لا يسمح بوجوده، نستبعده تماما.

المهم فى قصة “روكى” كما أسماه أبنائى الأعزاء، أن أطفالى الثلاثة كانوا يعشقونه عشقا، كأنه أخاهم الرابع، وكانوا يقضون يومٱ من أسعد أيامهم، إذا كان معنا الكلب اليوم كله، لأننى لم أكن أسمح بدخوله البيت إلا للاستحمام فقط، ثم يخرج فورٱ، وكذلك زوجى أحبه كثيرا وضحى من أجله طويلا، وحارب العالم من أجل بقائه، مهما كلفه الأمر من مشقة ومهما كلفنى أنا مشقة أكبر.

كانوا يحبونه جميعا، ولكنه صدق أو لا تصدق، كان متيمٱ بى أنا، كان يحبنى أنا حبٱ لا متناهى ويتحدث إلى بعينيه، كلما أمر من أمامه ينهض بعنف وينطلق تجاهى ببهجة قوية ونشاط، ولا يمنعه عنى سوى السلسلة الحديدية، فى طوق رقبته، التى أنقذتنى منه مرارا، ولم يستطع النيل منى سوى مرة واحدة، ولحسن الحظ أن الساعة وقتها كانت الثانية صباحٱ، ولم يكن أحد فى الشارع سواى أنا وهو وزوجى وأبنائى، حيث لعبت معه ” الاستغماية” لحوالى عشرين ثانية مرت على دهرا، ولكنه نال منى فى النهايه،”ابن الذين”.

أجبرنا جميعا على حبه والتعلق به من فرط خفة ظله وحنانه وطيبة قلبه وتسامحه وعطائه الدائم وهذا ما كنت أخشى أن يطول ويجعل فراقه صعبٱ وهذا ما حدث.

كنت أسمع عن وفاء الكلاب ولكنى لم أسمع قط عن تدليل الكلاب لأصدقائهم والتضحية من أجلهم.

لقد أجبرنى بجدارة أن أحترم الكلاب كما أجبرنى على التعلق به والحزن على موته والبكاء عليه.

كنت أتصور أنه يحبنى لأننى أعطيه الطعام والماء البارد وأنظف مكانه، ولكنى وجدته يحبنى بنفس الدرجة، حتى فى الأوقات التى كنت أجهز له الطعام ويعطيه له أحد غيرى ولا يرانى هو من الأساس، فلم يكن لينسى شخصا قدم له معروفا ولو ليوم واحدٱ، أو ربما عرف مذاق الطعام الذى أجهزه ويعلم جيدٱ أننى أنا الفاعلة، حتى وهو يعلم جيدٱ أننى أرفضه وأرفض وجوده وأرفض أن يلمسنى أو أن ألمسه.

علمنى الكلب أن أحب أو أحاول أن أحب بدون انتظار شئ فى المقابل، ولدون أن أسعر بأننى أقدم جميلٱ، فلقد أحبنى وهو يعلم أننى أحارب تواجده بكل السبل المتاحة وغير المتاحة، لكنه فصل تماما بين كراهيتى لوجوده والتى عاش ومات ولم يعلم سببها، وبين خدماتى له من تقديم سبل الراحة والبقاء.

تعلمت منه أمورا لم أقابلها بهذا الوضوح فى حياتى، من البراءة والثبات على الإيثار ومنح المشاعر الطيبة دون نية للتوقف، مهما عنفه الجميع ومهما أساءوا إليه أو رفضوه، لأنه لا يستطيع أن يمنح الا حبٱ.


وأنا الآن على يقين تام، أنه لو كان للكلاب القدرة على العمل والحصول على المال والكلام وقدرات الانسان كاملة، ما كانت لتتحول وتتغير كما نتحول ونتغير، لأنها لا تفوح إلا عطرٱ إسمه” الإنسانية” بأدق تفاصيلها، ولا تمكّنها سماتها الشخصية من بخ الشر أو أمثاله.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع