أهمية الوقت فى الإسلام
خلق الله الإنسانَ وأودعَهُ هذه الحياةَ وخلق له الزَّمنَ ليضبط ويقدر به حركته فيها، فَيُقدِّرُ أوقاتًا للعمل والنوم والأكل والانتقال… إلخ.
وحدَّد الله تعالى للمسلم نمطًا زمنيًّا عامًّا يجب أن يحكم حياته، فعليه أن يدرك أنه في حياة مؤقَّتة في هذه الدنيا، وأن حياةَ الخلودِ تنتظره في الآخرة، وهو فيها إما في الجنة إنْ آمنَ بالله وعمل صالحًا، أو النار إن أعرض عن طاعة ربه وكفر به، فعليه أن يغتنم وقته في طاعة الله وألا يضيِّعه فيما لا يغنيه شيئًا.
كما طلب الله سبحانه وتعالى من عباده أن يؤدوا عددًا من العبادات في أوقات معينة عليهم أن يلتزموا بها وأن يحرصوا على عدم الانشغال بغيرها في أوقاتها؛ كالصيام المفروض في شهر رمضان، أو الأوقات الخمسة يوميًّا للصلاة المفروضة، فيجب أن تؤدَّى كل صلاة خلال الفترة الزمنية المسموح بأدائها فيها، وألا يجاوز المسلم أي فترة منها دون أداء الصلاة المفروض عليه أداؤها فيها، مع تقرير أفضلية المبادرة لأداء الصلوات في أول أوقاتها.
وهناك مواقيت تختلف من شخص لآخر؛ كمواقيت أداء الزكاة لمن يملك نصابًا فإنها تتحدَّد وفقًا لموعد ملك النصاب، بحيث يجب عليه أن يخرج الزكاة في هذا الموعد كلما مرَّ على تاريخ امتلاكه للنِّصاب عامًا هجريًّا.
وكذلك صدقة الفطر التي تجب قبل صلاة عيد الفطر كل عام، بالإضافة إلى فريضة الحج على القادر مرَّةً في عمره في وقتٍ محدَّدٍ في أشهُر الحج.
هذه الأُطُر الزمنية تحكم السياق العام لحياة المسلم، تُرشده لضرورة أن يكون وقته منضبطًا في العموم؛ فيعتاد على تنظيم وقته وتقدير المدد الزمنية التي تستغرقها مجالات حركته في الحياة، ويجعلها مرتبطة بتلك المواقيت المأمور بمراعاتها شرعًا لأداء العبادات.
وقد أدرك الفقهاء هذه الأهميَّة للوقت في التَّصور الإسلامي، فبنوا تصوراتهم لكثير من الأحكام بناءً على هذا الاعتبار، فتحدَّثوا عن مفهوم “واجب الوقت” الذي يعني تعيُّن أداء عبادةٍ أو تصرف معين في هذا الوقت دون غيره، كأداء الصلاة المفروضة في آخر وقتها، فهذا الوقت الذي يسع أداء الصلاة قبل خروج وقتها يكون أداء الصلاة فيه مُتَعَيَّنًا، ولا يجوز فعل أي شيءٍ آخر فيه بخلافه، فأداء الصلاة في هذه الحالة يُسمَّى واجب الوقت.
وكذلك وقت صلاة الجمعة؛ فقد حرَّم الله فيه البيع والشراء حتى تُقْضَى؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۞ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة:9-10].
وهو مفهوم ممتد في سائر مجالات حركة المسلم في حياته، فإنقاذ شخص من خطر محقَّقٍ هو واجب الوقت بالنسبة لمن يقدر على إنقاذه ويعرف بحصول هذا الخطر، وأداء واجبات الوظيفة في وقت العمل هو واجب الوقت بالنسبة للموظف، وتعلم أحكام الفقه الضرورية لتمكين المسلم من عبادة ربه بالشكل الصحيح هو واجب الوقت بالنسبة له حتى يتعلَّم ما يُمكِّنه من أداء التكاليف الواجبة عليه.
وكلما صار محتاجًا لأداء تكليف جديد كان واجب وقته أن يتعلَّم كيفية تأديته بطريقة صحيحة، كمن كان فقيرًا لا يملك نصاب الزكاة أو القدرة على الحج، ثم صار غنيًّا مقتدرًا فإن واجب وقته عند حدوث هذا الغِنى أن يتعلم أحكام الزكاة والحج، وهكذا.
وهذا الإدراك لقيمة الوقت يتجلَّى بوضوح في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» رواه الترمذي.
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ».
فالزمن الذي يقضي الإنسان فيه عمره يُحمِّله مسؤولية كبيرة عليه أن ينتبه لعِظَمِها وأهميَّتها وأن يستعد للمحاسبة بشأنها.
إن اهتمام المسلم بوقته واستثماره فيما يفيد يُعد أحد مظاهر شكره لله تعالى على نعمة الزمن التي منحها الله إياه، كما بَيَّنَ ذلك الحقُّ سبحانه في قوله:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].
وقوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۞ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 33-34].
وأوضح الحقُّ جل شأنه أهمية اختصاص كل وقتٍ بأمر مُعَيَّن؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [القصص: 73].
وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: 12] .
وقال أيضًا: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ۞ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 9-10].
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في “تفسيره” -في تفسير سورة العصر- ما ملخصه ومعناه:
أقسم بالله تعالى بالعصر الذي هو الزمن لما فيه من الأعاجيب، لأنه يحصل فيه السَّراء والضَّراء، والصِّحة والسِّقم، والغنى والفقر؛ ولأن العمرَ لا يقوم بشيء نفاسة وغلاء.
فلو ضيعت ألف سنة فيما لا يعني، ثم تبت وثبتت لك السعادة في اللمحة الأخيرة من العمر، بَقِيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللَّمحة، فكان الزمان من جملة أصول النعم؛ فلذلك أقسم الله به، ونبه سبحانه على أنَّ الليل والنهار فرصة يضيعها الإنسان!
وأن الزمان أشرف من المكان فأقسم به؛ لكون الزمان نعمة خالصة لا عيب فيها، إنما الخاسر المعيب هو الإنسان”.
وقد كان حرص الصحابة والصالحين في مختلف الأزمان مثال عجيب على اعتنائهم بالوقت واستغلاله الاستغلال الأمثل، فكان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يقول:
“ما ندمت على شيءٍ ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يَزِدْ فيه عملي”.
ولقد ذكر الإمام ابن القيم في شرحه المسمى “مدارج السالكين على منازل السائرين” عند الحديث عن مقام الغَيْرةِ: أن “الوقت” عند العابد: هو وقت العبادة والأوراد، وعند المريد: هو وقت الإقبال على الله، والجمعية عليه، والعكوف عليه بالقلب كله، و”الوقت” أعزُّ شيءٍ عليه، يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك، فإذا فاته الوقت لا يمكنه استدراكه الْبَتَّةَ؛ لأن الوقت الثاني قد استحقَّ واجبه الخاص، فإذا فاته وقت فلا سبيل إلى تداركه.
وقال: إن غَيْرَةَ العبد لربه من نفسه “ألَّا يجعل شيئًا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه”.
إن استغلال الإنسان لوقته فيما يُفيد واجبٌ عظيمٌ لا يجوز لأيِّ مسلمٍ أن يتهاون في أدائه، أو يفرط في احترامه، حتى يحقق الخير لنفسه ولأمته، ويرضي الله جلَّ وعلا ويشكرَه على هذه النعمة الجليلة، التي سيُحاسبه عليها.