حديث عن كتم المشاعر
عندما كنا صغاراً كانت مشاعرنا غضّة.. حية.. قوية، كنا نختبر عمق الحزن والغضب والألم.. كما نختبر الحب والفرح والبهجة والسعادة.. نبكي.. نضحك.. يعتصر الألم قلوبنا.. نحب بكل جارحة من جوارحنا.
ولكننا في وقت ما، ولأسباب مختلفة عند كل واحد منا، خلقنا لأنفسنا عادة غريبة؛ وهي عادة كتم مشاعرنا ومقاومتها ودفنها، على أمل أن نقوم بوأد المشاعر التي نعتبرها “سلبية”، ونستمتع فقط بالمشاعر التي نعتبرها “إيجابية”.
ولكننا مع الوقت نصطدم بالحقيقة المرة.. وهي أننا أغلقنا محبس المشاعر العمومي.. وكما فقدنا أو حجمنا من مشاعر الألم والغضب والحزن؛ فإننا أيضاً كبتنا مشاعر الفرح والسعادة والحب والدهشة والبهجة، ودفنا مع مشاعرنا أجزاءً من روحنا.
والأزمة الأكبر أن إنكارنا لمشاعرنا لا يلغيها، ولكنه يخلق اضطراباً داخلياً، ويديم هذه المشاعر ويقويها، ومن خلال مقاومتنا لها تصبح عالقة في الجسم.
وأياً كان نوع المشاعر سواء كانت غضباً أو حزناً، أو شيئاً آخر فإنها تكون مصحوبة بأحداث متعلقة بأشخاص أو أحداث خارجية” تبرر لنا ردود أفعالنا، وتعمل على إبقاء مشاعرنا حية ومتأججة رغم كبتنا لها، وتصبح أشبه بالحمم البركانية التي تمور تحت السطح، وتنتشر وتتوغل بحثاً عن أضعف النقاط في حصوننا لتنفجر في وجوهنا أمراضاً جسدية ونفسية مختلفة.
أظهرت دراسة أميركية حديثة أن “الفشل في التعبير عن المشاعر من الأسباب التي تؤدي إلى الوفاة المبكرة”.
وبينت أن “قمع المشاعر المختلفة، وعدم البوح بها وكبتها في الصدور من الأسباب التي تقود المرء إلى حدوث الأمراض النفسية على الخصوص، والمؤدية إلى الوفاة في أغلب الأحيان”.
وهو ما تؤكده إحدى متبعات فمرة كتم المشاعر التي تقول ؛ إنها تشعر بالتعب والإرهاق حين تحاول كبت مشاعرها التي تنتابها بين الحين والآخر، سواء كانت مشاعر غضب أو حزن، أو حتى مشاعر عدم الرضا عما يحيط بها من أحداث، وتؤيد بالفعل ما جاء في هذه الدراسة بعد اطلاعها عليها.
وتقول “في عالمنا العربي هنالك الكثير من مشاعر الكبت والحزن والفشل في التعبير عن المشاعر”، لذلك عادةً ما نسمع عن ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة التي تصيب القلب، وتؤدي إلى حدوث الأمراض العضوية والتجلطات، وترى أن سببها الرئيس هو “الكبت”.
تشير تفاصيل الدراسة الأميركية الصادرة عن كلية هارفارد للصحة العامة، بالتعاون مع جامعة روشستر، والتي أعدها مجموعة من العلماء، إلى أن النتائج أثبتت أن “مخاطر الوفاة المبكرة تتزايد بما نسبته 35 % من بين الأشخاص الذين لا يحاولون التعبير عن مشاعرهم”.
وتضيف الدراسة أن البحث في أسباب الوفاة أظهر للعلماء أن 47 % من الذين يفشلون في التعبير عن مشاعرهم عادةً ما يموتون بسبب أمراض القلب، وأن ما نسبته 70 % منهم يتعرضون للوفاة نتيجة إصابتهم بمرض السرطان الذي يكون السبب المؤدي إليه هي “الضغوط النفسية التي يتعرضون لها نتيجة كبتهم لمشاعرهم وعدم التعبير عنها”.
ويرى اختصاصي علم النفس السلوكي، الدكتور خليل أبو زناد، أن الحالة النفسية التي يعانيها الإنسان من خلال كبت مشاعره وعدم البوح عما يختلجه من حديث للنفس، قد يكون له كبير الأثر في ظهور أعراض مرضية عضوية قد تؤثر على الإنسان على المدى البعيد.
وفي السياق ذاته تقول إحدى كاتمات المشاعر إنها تجد حرجا كبيرا في حال أرادت البوح والحديث عن مشاعرها للآخرين، لذلك ينتابها شعور كبير بالتوتر والقلق في حال كبتها أي نوع من المشاعر أو الأحاديث الخاصة بها وعدم البوح بها للمقربين من الصديقات أو أهلها”.
وتعتقد أن طبيعة التربية والحياة الاجتماعية التي تعودنا عليها قد تسهم في تقييد مشاعر الإنسان وعدم التعبير عنها.
هذا وكان فريق البحث المشارك في الدراسة قد قام بفحص نتائج الاستبيان الذي شارك فيه 796 شخصا من كلا الجنسين، لتحديد “مدى الكبت والتحفظ في المشاعر لدى المشاركين في هذا الاستبيان”.
وبعد ما يقارب اثني عشر عاماً تم تكرار ذات التجربة بذات الأسئلة على نفس الأشخاص ليتبين أن 111 شخصاً من المشاركين في الدراسة قد توفوا نتيجة إصابتهم بأمراض القلب، أو السرطان، وتبين أن معدلات الوفاة كانت أعلى عند الأشخاص الذين كانوا حريصين على كتم مشاعرهم وعدم البوح بها.
من جانبه، يوافق مختصى الطب العام والأسري، أن الأمراض العضوية في الكثير من الحالات سببها أمراض نفسية، تسمى في الطب العام “الأمراض النفس جسمية”.
ومنها كبت المشاعر، التي تترتب عنها أعراض كثيرة أبرزها التعب العام والإرهاق وضيق النفس وعدم انتظام دقات القلب، والتوتر الدائم.
ويوضح أبو زناد أن الدراسات النفسية تؤكد أن مشاعر القلق والخوف والكبت التي قد يعاني منها الإنسان هي من الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى ظهور الأمراض، ومنها تراجع نسبة المناعة لدى الإنسان، فالخوف والقلق والترقب قد تزيد من تفاقم الحالة الصحية للمصاب بالسرطان، بينما تساهم المشاعر النفسية الإيجابية في المساعدة على العلاج والشفاء”.
كما أن الكبت المتراكم للمشاعر منذ الصغر قد يؤدي إلى حدوث نوعين من النتائج، الأول وهو سلبي ويتمثل فى الانفجار الذي يقود صاحبه إلى الانهزام الداخلي، وإلى التعبير غير السلمي عن مشاعره، وعادةً ما يدمن هذا الشخص على الكحول والمخدرات التي توقعه في مصيدة الأمراض.
وأما الثاني وهو إيجابي فيتمثل في التعبير عن المشاعر، من خلال الكتابة والخطابة، والتعبير الفني بشتى أنواعه، والاندماج في المجتمع، والتظاهر السلمي.
ويتم التأكيد دائمٱ؛ أن على الأشخاص الذين يعانون من مشاعر الكبت ولا يقدرون على البوح، أن يتوجهوا للمختصين من الأطباء النفسيين، من أجل معالجة أنفسهم من الناحية النفسية.
وفي هذا الصدد يشار إلى إحدى الدراسات الطبية التي بينت أن 50 % من رواد العيادات الطبية هم ممّن يعانون من “تقلبات نفسية تؤثر على حياتهم بشكل عام، وعلى حالتهم الصحية النفسية والجسدية بشكل خاص.