الروح وعلومهادين إسلامى

مقال الحب للدكتور مصطفى محمود

الحب و الهوى و الغرام خداع ألوان، ما نراه في المحبوبة مثلما نراه في قوس قزح، جمال ألوان قوس قزح ليس من قوس قزح نفسه و لكنه من فعل نور الشمس على رذاذ المطر المعلق في الهواء.

فإذا غابت الشمس و جف المطر اختفت الألوان و ذهب الجمال.

و هكذا محبوبتك جمالها فيما يتجلى عليها من خالقها، فإذا انقطع عنها التجلي شاخت و مرضت و ذبلت و عادت قبحا لا جاذبية فيه، إن ما كانت تملكه من جمال لم يكن ملكا لها بالأصالة، بل كان قرضا و سلفة.

حتى السجايا الحلوة و النفوس العذبة و الخلال الكريمة هي بعض ما يتجلى فينا من أسماء خالقنا الكريم الحليم الودود الرءوف الغفور الرحيم.

أليست هذه أسماؤه … !؟
و هل نحب حينما نحب إلا أسماءه الحسنى حيثما تحققت و أينما تحققت.
و هل نحب حينما نحب إلا حضرته الإلهية في كل صورة من صورها.

و الحكيم العارف من أدرك هذه الحقيقة فاتجه بحبه إلى الأصل؛ إلى ربه و لم يلتفت إلى الوسائط و لم يدع بهرج الألوان يعطله؛ و لم يقف عند الأشخاص؛ فهو من أهل العزائم لا تعلق له إلا بربه؛ لقد وفر على نفسه خيبة الأمل و انقطاع الرجاء و خداع الألوان.

لقد أحب من لا يهجر ، و عشق من لا يفتر، و تعلق بمن لا يغيب، و ارتبط بمن لا يموت، و صاحب من بيده الأمر كله و ساهم في البنك المركزي الذي يخرج منه النقد جميعه وهام بالودود حقا ذاتاً و صفاتاً و أفعالاً.
و ذلك هو مذهب العارفين في الحب.
فهل عرفت؟
و إذا كنت عرفت .. فهل أنت بمستطيع ؟

و مذهب العارفين ليس مجرد معرفة ولكنه همة واقتدار وكدح ومغالبة والنفس لا تستطيع أن تعشق إلا ما ترى و لا أن تتعلق إلا بما تشهد بصراً وسمعاً و حواساً.
أما تعلق الفؤاد بالذي ليس كمثله شيء فمرتبة عليا لا يوصل إليها إلا بالكدح و الكفاح و الهمة وقبل ذلك كله بالتوفيق و الرضا من صاحب الأمر كله.

و لهذا أدرك العارفون أن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه إلا ركوعاً و سجوداً وابتهالاً وعبادة وطاعة و دخضوعاً وخشوعاً وتذللاً و دتجرداً وإن هذه مرتبة لا تنال بشهادة جامعية ولا بماجستير أو دكتوراه، أو تحصيل عقلي ولكنها منزلة رفيعة لا مدخل إليها إلا بالإخلاص و سلامة القلب وطهارة اليد و دالقدم والعين و دالأذن ولا سبيل إليها إلا بخلع النعلين.
تخلع جسدك و نفسك.

و ليس مقصود القوم هنا هو الزهد الفارغ و التبطل وإنما أن تخلع حظك وأنانيتك وشهوتك وطمعك وشخصانيتك، وأن ترتد إلى الطهارة الأولى اللاشخصانية التي تعطي فيها وتحب دون نظر إلى حظ شخصي أو عائد ذاتي، فهي حالة عمل وعطاء و دبذل وليست حالة زهد فارغ وتبطل وهي في ذروتها حالة فداء و تضحية في سبيل إعلاء كلمة الله تضحية لا تنظر إلى نيشان أو نصب تذكاري ولكنها تبذل المال و الدم و النفس لوجه الله وحده.

و يقول العارفون إن مائدة الاستشهاد هي أعلى موائد التكريم ولا دخول إليها إلا ببطاقة دعوة من صاحبها ولا دخول إليها اقتحاماً أو قهراً وتبجحاً وإنما هي دعوة من الكريم يتلقاها صاحب الحظ بالتلبية والهرولة ولا يتلقاها المحروم بالتكاسل والتخاذل والتخلف.

ذلك هو الحب في مذهب القوم، وهو غير الحب في مذهب منتجي أفلام السينما ومؤلفي الرومنتيكيات، وهو أيضا غير الحب عند الكثرة الغالبة من الناس.

حيث الحب هوى و نار و شهوة و جريمة ومجوهرات. و لحظات تتألق بالشعر ثم ما تلبث أن تخبو وتنطفئ وتترك رمادا من الأكاذيب.

( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) ( يوسف )
( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) ( العنكبوت )
( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (116) ( الأنعام )
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا (36) ( يونس)
( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (44) ) ( الفرقان )

هكذا يعلمنا القرآن أن الكثرة لا تعرف أما العارفون فقليل ما هم و لكن الصحافة التي تخاطب الكثرة والسينما التي تتملق الجماهير و المؤلفين الذين يطمعون في الرواج و الشعراء الذين يتبعهم الغاوون يتغنون بألوان أخرى من الحب. و يتيهون معاً في أودية الغفلة التي تنتهي بنا إلى جنون قيس و انتحار جوليت و سقوط راهب تاييس و مباذل فالنتينو و جرائم آل كابوني و موائد مونت كارلو.

و المنتجون عندنا أكثر تواضعاً فهم يكتفون بكباريهات شارع الهرم.

و هو أمر قديم قدم التاريخ منذ أيام بابل، و منذ أيام أنطونيو و كيلوباترا و منذ أيام الفراعنة والإغريق والرومان ونقرأ في كتاب الموتى هذه السطور التي كتبها الحكيم المصري منذ خمسة آلاف عام.

لا تنظر إلى امرأة جارك فقد انحرف ألف رجل عن جادة الصواب بسبب ذلك إنها لحظة قصيرة كالحلم و الندم يتبعها.
إنها معارف قديمة منذ أيام آدم وقصة بائدة منذ مقتل هابيل.
و لكن لا أحد يذكر ولا أحد يعتبر ولا أحد يتعلم من الدرس.
و أكثر الذين يعرفون لا تنفعهم معرفتهم بسبب ضعف الهمم و تخاذل الأنفس و غلبة الشهوات.

إن السلالم إلى الأدوار العليا موجودة طول الوقت، ولكن لا أحد يكلف نفسه بصعود الدرج و الأغلبية تعيش و تموت في البدروم.
و لو كلف أحد منهم نفسه بالصعود وتحمل مشقة الصعود و شاهد المنظر من فوق، لبكى ندماً على عمر عاشه في البدروم بين لذات لا تساوي شيئاً و لكنه الضعف الذي ينخر في الأبدان.

و البشرية تسير من الضعيف إلى الأضعف، و الأجيال الجديدة أكثر ضعفاً وأكثر تهافتاً على العاجل البائد من اللذات، واقرأ المقال من أوله واسأل نفسك من أي مرتبة من البشر أنت ؟
هل أنت عارف .. و إذا كنت عارفاً .. فهل أنت بمستطيع ؟؟؟

و ابك ما شئت من البكاء فلا شيء يستحق أن تبكيه، لا فقرك ولا فشلك ولا تخلفك و لامرضك .. فكل هذا يمكن تداركه أما الخطيئة التي تستحق أن تبكيها فهي خطيئة البعد عن إلهك.
فإن ضيعت إلهك، فلا شيء سوف يعوضك.
و كل أحلام الشعراء لن تغنيك شيئاً.


من كتاب (الإسلام . ما هو ؟ )
للدكتور مصطفى محمود

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع