مقالات نورا عبد الفتاح

القرب أجمل

يقولون أن الناس من بعيد أجمل وأن الإقتراب منهم يظهر العيوب والنقائص ويجعل الشخص غير مرغوب مثلما كان فى البعد.

لأننا نصنف الناس على هوانا، ونتوقع منهم صورة معينة وسلوكيات معينة ومواقف معينة، فإذا أخلوا بها واتبعوا غير ما توقعنا، قلنا عنهم إنهم سيئون وليسوا كما تصورنا وأسوء مما توقعنا، لأننا لا نقبل أحداً كما هو، لا نقبل إلا فكرتنا التى كوناها عنه والصورة التى رسمناها له والطريق الذى حددناه له.

مع أن الأجمل والأصدق والأكثر راحة هو الاقتراب وظهور طبيعة الشخص الفريدة عن غيرها والتى لن تتضح فى البعد ورسم الحدود، ففى البعد الجميع يتحدثون فى نفس الموضوعات وبنفس المعلومات وفى نفس الأطر وبأحاديث رسمية، حتى المزاح لا يكون مريحاً ولا صادقاً، أما فى القرب فتظهر شخصياتنا على حقيقتها الصريحة، وتتفرد وتختلف عن غيرها وتتميز فى أسلوبها ومنهجها فى الدعابة والتعبير عن الرأى، ولكننا نفضل التكلف الظاهرى والصورة التقليدية للأشخاص.

أحاول دائما أن أصل إلى النقطة الفطرية الطبيعية فيمن أمامى بمحاولة تشجيعه على التباسط والبعد عن العقد وتحميل الأمور أكثر مما تستحق، كى تكون التعاملات أسهل وأكثر سلاسة، إلا أن البعض يأبى إلا وأن يسير فى الطريق الأكثر مشقة وتكلف، الطريق التقليدى الذى يسلكه أغلب الناس، حتى أن البعض يتكلف مع أقرب الناس إليه بما فيهم أمه وأبيه وأقرب أصدقائه.
فكلامه رسمياً وتقليدياً متوقعاً دائماً، كما يجب أن يكون لا كما يستدعى الموقف ودرجة القرب، حتى فى المزاح واللعب.

والغريب أن مثل هؤلاء فى الغالب ما يشعرون بعدم الراحة وبالقيود، إلا أنهم لا يعلمون سبيلاً آخر للعيش وسط الأهل والأصدقاء والجيران والأقارب….. سوى التكلف التقليدى وقيود العادات.

الجميع عن قرب أجمل وأكثر تميزاً، فلا أحد يشبه أحد، ولا أحد يفكر مثل أحد، ولا أحد يسلك سلوك أحد.


ولكن صاحب هذه الفكرة فى الغالب على يقين بأن الجميع لن يتقبل حقيقته من القرب أو هو لن يتقبل حقيقة الآخرين من القرب فيفضل خلق الحدود.

هناك من يتقربون من النقاط الداخلية لدى عامل النظافة والنجار والخباز والميكانيكى ويستطيعون الوصول إلى هذه النقاط الفطرية الداخلية الفريدة والتى ليس لها إلا نسخة واحدة، يصلون إليها بالود وبالحديث بصوت مرحب، بالأسئلة الغير تقليدية، بالاحترام وحسن المعاملة، ويستسلم الجميع على الفور، فالجميع يحتاج إلى من يصل إلى داخله ويستخرج منه أموراً لا يعلمها هو عن نفسه وعن الحياة والناس فأغلب الناس لا يعلمون ما يميزهم.

السير فى الدروب ذات الحدود والحوائط والسدود لا يبنى علاقات أخوية ناجحة ولا زيجات ناجحة ولا صداقات ممتدة ولا حتى أبوة وبنوة صحية.

أتصور العلاقات بين صحابة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، صريحة وواضحة وجريئة وفطرية، دون أدنى تكلف، يظهر فيها أنواع وأصناف من الشخصيات وردود الأفعال لا يشبه أحدها الآخر، لأنهم يتبعون الفطرة ويتقبلون أنفسهم ويتقبلون الآخرين.


حتى مفردات كلاً منهم فى حب رسول الله، فى الحث على الجهاد، فى الإعتذار، فى الإعتراف بخطأ، وفى الشكوى، تختلف كلياً عن الآخرين، لأن لا أحد يتصنع ويسير على النموذج، إنما يتصرف ويتعامل فقط.

ونحن فى حاجة إلى أن نتصرف ونتعامل فقط، لأن السير بقيود الغير يكلفنا عناء ومشقة لا داعِ لها ولا فائدة منها، سوى أنها جهداً ضائعاً ومزيد من الصعوبات التى نحملها أثناء المعاملات فيما بيننا ولا تنفع أحداً، لا المتكلف ولا من يتعامل معهم ولا العلاقة نفسها.

حتى مع الإنسان البدائى وحتى قبل الحضارة، أتصورهم جميعاً بسطاء تملأهم الجرأة والشجاعة وتقدير أنفسهم والآخرين.

لذلك وصلوا إلى الحضارة وسلكوا طرق للتحسين والتجويد والتحضر والتقدم والسير للأمام، لأنهم إستغلوا نقاط القوة فى كل منهم، حيث كان الطبيعى أن يتعامل كلاً منهم على سجيته فيظهر تميزه وإجادته وحذقه، أما ما نعيش فيه من تكلف يقيد كل المزايا والتميز والإبداع والبراعة داخل الجميع فلا أحد يظهر جماله الداخلى خوفاً من أن يظهر معه قبحه الداخلى الذى يعلم أنه لن يقبله أحد.


أتسائل طوال الوقت؛ كيف يمكن للحياة أن تكون أسهل وأسلس وألطف لو أننا لا نحكم على بعضنا البعض وبالتالى لا نجبر بعضنا على التصنع والظهور بغير الحقيقة التى نرسمها من بعيد ؟؟؟

وليس لما أقول علاقة بمن يستغل الاقتراب من الناس حتى يتجرأ عليهم ويسئ إليهم ويلغى الإحترام ويعتبر التدخل فى حياة الناس حقه وواجبه، فنحن نستطيع أن نصل إلى دواخل بعضنا البعض ونجعله أسلوب حياتنا حتى مع من نراهم لمرة واحدة ولن تتكرر، حتى مع باعة المحلات والسباك والميكانيكى والناس فى كل مكان فى وجود كامل الاحترام.

أعرف رجلين تخطيا السادسة والسبعين وأسرار كلا منهما كلها لدى الآخر، يستشيران بعضهما فى كل ما يحيرهما ولكنهما لا يناديان بعضهما إلا ب ( حضرتك ).
فالقرب والعشرة لعشرات السنين لم تمحُ الاحترام فى الحوار وأن يعطى كلاً منهم الآخر التقدير الذى يستحقه.

من عيوب التصنع أن البعض يصدر للناس صورة الجاد السخيف مع أنه لطيف وظريف، أو صورة البخيل مع أنه كريم، أو صورة المقصر مع أنه متفانِ، المهم أن يظهروا غير حقيقتهم أو يتصورون أن هذا ما يستدعيه الموقف، وهذا ما يجب أن يصدر عنهم من سلوك، المهم أن يشوهوا فطرتهم التى يخفونها ويتصورون أن هذا الإحفاء ضرورة، متخيلين أن تغيير فطرتهم واجب عليهم وأنهم بهذا التصنع يضمنون تقبلاً وترحيباً وحسن معاملة من الجميع.

هل هذا يعنى أننا لو اتبعنا الجانب المتفوق فينا وأظهرناه دون خوف سنتغير وننهض بأنفسنا وبعالمنا ؟

بالطبع نعم !

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع