ممكن أكلم نورا
ذات يوم وأنا فى الصف الثانى الإعدادى إتصل شخص ما على هاتف المنزل، فأجبت قائلة؛ آلو أو سلام عليكم.
فقال لى الشخص؛ عليكم السلام، أنا أحمد، إنتى مين ؟
وكان صوته طبق الأصل من صوت أحد أقاربنا، فقلت له ( إزيك يا أحمد، أنا نورا ) فقال لى ( إنتى فى سنة كام ؟) فقلت له فى ( تانية إعدادى )، وتصورت أنه بالفعل لا يذكر فى أى سنة دراسية أدرس، وليس هناك مشكلة فى ذلك، فليس بالضرورة أن يحفظ السنوات الدراسية لكل أبناء العائلة، وقال لى أنه فى الصف الأول الثانوى، كما هو حال أحمد الذى هو أحد أقاربنا.
ثم بدأ يسأل أسئلة مريبة، تأكدت منها أنه ليس أحمد الذى نعرفه، ربما سأل ( إنتى منين ؟ ) وما شابه.
فأغلقت الخط وذهبت فى حالى وتصورت أن الموضوع قد انتهى، فاتصل بعدها مرة واثنين وثلاث وعشرة وعشرين، وكل أفراد البيت ردوا عليه، تارة بالأدب وتارة بالسب والإهانة وأحياناً بالهدوء وأحياناً بالشدة وأحياناً بمنتهى الشدة، ولا فائدة.
ولما كانت الهواتف فى السابق لا تظهر رقم الطالب، فكنت أرد عليه فى بعض الأحيان فأجده المتصل فأغلق الخط، فيعود لبدأ الفيلم من جديد لعدة أيام متواصلة.
صدق أو لا تصدق أن هذا الشخص ظل على هذا الحال منذ أن كنت فى الصف الثانى الإعدادى وأنا فى عمر الثالثة عشرة، وحتى يوم أن وضعت إبنتى الكبرى وأنا فى الثالثة والعشرين وطوال عشر سنوات متواصلة لم يكف عن الإتصال من وقت لآخر ليسأل ( ممكن أكلم نورا ؟ )، بعد ذلك اختفى بفضل من الله، ( راح فى داهية، أو أخذه الوبا ) أو ربنا هداه، الله أعلم.
ولكن لكل هذه السنوات كان يغيب ويعود ويغيب ويعود، ولكنه لا يتوقف قط !
المؤسف فى قصة هذا الأحمد من وجهة نظرى؛ كيف يكلف شخص ما نفسه مادياً كل هذه المكالمات الهاتفية ويتحمل إهانات لسنوات طويلة من عدة أفراد، ويتحمل ضغطاً نفسياً من أجل لا شئ ؟
هل أحبنى وعشقنى ووقع فى غرامى لأننى قلت له ( أنا نورا ) ؟
بالطبع لا، هل أنا أستحق كل هذا المجهود وهو لا يعرفنى ولا يعرف عنى سوى أن إسمى نورا وفى الصف الثانى الإعدادى ؟
بالطبع لا.
هل هو فراغ وقت ؟
بالطبع نعم، ولكنه ليس فراغاً فقط، إنه فراغ ممزوج بسوء توجيه للطاقة، لماذا يبذل كل هذا الجهد فى اتجاه لم يجنى منه شيئاً البتة لأعوام وأعوام.
هو كذلك سوء تربية، فلو كان أبوه وأمه يتابعان أفعاله لعلما بما يفعل ومنعاه، كما أنه سوء تدين لأن هذا بالطبع يتنافى مع الدين.
فى الأمر أيضاً نظرة دونية للذات؛ أن يرى نفسه حقيراً ومهاناً بشكل ما ويستمر.
وتؤثر هذه النظرة الدونية على حياته كلها وعمله وعلاقاته، وسيظل يطارده هذا الشعور بالدونية أينما حلّ، فهو بالطبع يفعل ذلك كثيراً وليس معى بمفردى.
كما أن طاقته الكبيرة المبذولة فى مثل هذه التفاهة والخيابة ستأخذه إلى آفاق أفضل وأفيد وأنفع لو أحسن توجيهها.
سألت نفسى كثيراً؛ لماذا يتصل هؤلاء الذين يتصلون بأرقام لا يعرفونها وأشخاص لا يعلمون عنهم إلا رقم هاتفهم، لإجراء مكالمة تنتهى بغلق الخط( فى وشهم ) ؟
هل لديهم الأموال الطائلة لينفقونها على إتصالات هاتفية ( وخلاص ) ؟
أم لديهم الوقت الوفير الذى لا يجدون ما يملأه ؟
تمنيت أن أجد إجابة أو أعرف منفعة واحدة تعود على من يتحرشون بالناس عبر الهواتف أو حتى فى الشوارع أو البلهاء الذين يتصلون على تطبيق الماسنجر لرسائل الفيسبوك وهم لا يعرفون عن الشخص أى معلومات ولن تكون بينهم وبينه أى علاقة وسينتهى أمرهم ببلوك يتم عمله فى أقل من 30 ثانية.
يغلب على الأمر الجبن وعدم المواجهة؛ عبر الهاتف أو مواقع التواصل الاجتماعى، فلا أحد يعرف حقيقة المتحدث ولا عمره ولا ما دوره فى الحياة، ولن يطاله أحد مهما فعل أو تصله عقوبة، لذلك يزيد مثل هؤلاء فى سوء التصرف، إعتماداً منهم على أن لا أحد سيصل إليهم.
هل تتخيل لو وجه كل المعاكسون فى الهواتف والشوارع مجهوداتهم وطاقاتهم للدراسة أو للعمل، حتى فى سن صغير، مادام ليس صغيراً على معاكسة الناس، فهو ليس صغيراً على العمل.
أو لو وجه المتحرشون فى الشوارع وغيرها مجهوداتهم المضنية إلى عمل ينفعهم يجلب لهم المال والمكانة، لأصبحوا بكل هذه الطاقات أثرى الأثرياء.
فالعمل أو المجهود البدنى بشكل عام يتناسب عكسياً مع الشهوة الجنسية؛ كلما تفرغ الشخص وقضى وقتاً كبيراً فى اللا شئ واللا نفع، كلما سيطرت عليه شهواته عموماً وشهوته الجنسية خصوصاً والتى قد تفقد الشخص التحكم فى أفعاله وسلوكياته إلى حد كبير.
وتجعله يسئ التصرف ويسئ التخطيط والرؤية، وكل ذلك باختياره وبتأكيد منه.
وعلى الرغم من أنه فى السنوات القليلة الماضية، أصبح اتخاذ إجراء قانونى ضد مثل هؤلاء متاحاً؛ إلا أن ( مين اللى فاضى للكلام الفارغ ده ؟ ).
أنا شخصياً لا أستطيع إتخاذ إجراء قانونى ضد شخص أشعر بالشفقة على حاله من كم التفاهة التى تملأه فأكتفى بحظره أو وضعه فى القائمة السوداء وأتركه يبحث عن بديل لى يرد عليه ويسليه !