أنا هاهرب من البيت عايزة آيس كريم
شئ مزعج ومنتشر بشكل كبير فى جميع الأعمار والمستويات الفكرية والعلمية والاجتماعية؛ شخص يود أن يقول شيئاً فيقول شئ آخر أو يود أن يقول شيئاً فلا يستطيع ويقول ( لا، أنا ماعرفش أقول الكلام ده ).
فى مرات كثيرة جداً؛ يشكو لى أحد زوجين أن الطرف الآخر يعامله بتعالى أو غرور أو بتقليل من قدره أو يسئ إليه بصورة ما وأن هذا يؤذيه ويزعجه ويؤثر على حياته وعلى علاقتهما، فأقول للشاكى أو الشاكية؛ ( قولى له أنك فاجأتنى بكذا وكذا مفاجآت غير سارة، وأزعجتنى عندما فعلت كذا ولم أتوقع منك هذه المعاملة، فلماذا لا تحسن من أسلوبك بكذا وكذا) أو أطلب من الشاكى أو الشاكية أن تقول ما تريد حتى ولو على سبيل السخرية والهزار فتقول مثلا ( إيه يا عم، مالك عايش فى الدور أوى كدا ليه، متعملهمش عليا، ما ترحم نفسك، ما تهدا علينا ) وأمثال هذا الكلام الذى نضطر لاستخدامه على سبيل الهزار، وهو فى الحقيقة مقصود ولكننا نتجنب الصدام لحين الضرورة.
فأجد الرد ( لا، أنا ماعرفش أقول الكلام ده، أنا لما بيقوللى كذا، باسكت خالص، مباعرفش أقول حاجة ).
حتى فى كلامنا العادى نقول كلام لا نقصده ولا نعنيه ولا نمرره على عقولنا، الأم تقول لابنها؛ هاموتك، هاقتلك، إنا هاسيب البيت وأمشى ومش هتلاقونى.
ولأننا تعودنا أن نسئ التعبير، وصلنا لنقطة عدم القدرة على اختيار الرد المناسب، الذى يشكو منه البعض.
فى واحدة من (خناقاتى) مع إبنى؛ قام فارتدى ملابسه وفتح باب الشقة وقال لى؛ ( أنا نازل التمرين، وهاهرب من البيت مش هارجع تانى، ماشي، عايزة آيس كريم أوريو وأنا جاى ؟) فى نفس الجملة.
لو كان يعلم أنه سيعود بإذن الله بعد التمرين ويعرض على الآيس كريم فلماذا يقول؛ أنا ساهرب ولن أعود؟
لماذا نقصد أموراً ونقول أخرى، ونتصرف سلوكيات لا تتماشى مع ما نقول ولا مع ما نقصد ؟
حتى أنا وإن ظن البعض أننى أعمل بالكتابة وأحسن اختيار الألفاظ، إلا أننى فى كثير من الأحيان لا أجد كلمات تعبر بالضبط عما أريد الإخبار عنه، أو عندما أعيد قراءتها أجد أن هذا المكتوب ليس بالضبط ما كنت أود توصيله أو أنه ليس واضحاً بما يكفى.
يزيد هذا الأمر من سوء فهمنا لبعضنا البعض وعدم إعطاء بعضنا البعض فرص للتبرير أو شرح أسباب، لا سيما إن كنا بالفعل نسئ الفهم بشكل دائم، فما بالك عندما نسئ التعبير ؟
الفخ الذى يسقط فيه من يجدون صعوبة فى التعبير عما بداخلهم؛ هى أنهم يفقدون الثقة بأنفسهم وينزوون ويقللون من علاقاتهم الجديدة، وكأنهم يفسدون حياتهم كلها، بسبب جانب واحد خافت منها، مثل الذى لا يصلى فيكف عن الزكاة والصلاة، ظناً منه أنه ضائعاً لا محالة، وأن الأمور كلها اختلطت وفسدت بفساد هذا الجانب.
أو مثل الرجل الذى يواجه أزمات أو صعوبات فى عمله، فيسئ لأصدقائه حتى يقطع علاقته بهم، ويذهب إلى البيت فيصرخ فى وجه زوجته ويضرب أولاده فيفسد علاقته بهم، ويسئ إلى والديه فيغضبهما عليه ويعكر علاقته بهما، ويقطب جبينه فى وجه جيرانه فيخسرهم، وكأنه قرر أن يدمر حياته كلها لأن يواجه مشكلات فى العمل.
كثيرون يقولون أنهم بعد انتهاء المواقف التى تحوى توتر أو خلاف، يتذكرون الردود المناسبة التى كان يجب أن يقولونها فى الموقف ولكنهم فشلوا وقتها، وجاءهم الرد متأخراً، ويحدث ذلك عادة أو دائماً.
إن الردود المناسبة أو التى يستحقها الموقف تأتى بعد انتهاء الموقف، عندما يكونون فى حال الهدوء، أى أنهم لو هدأوا ساعة الموقف محل الصراع، لاستطاعوا الوصول إلى الرد المناسب ولاستدعت عقولهم الألفاظ المناسبة التى تخدم موقفهم، أى أن الحل فى الهدوء، فمعظم الذين يواجهون مشكلة فى التعبير عما يودون إيصاله للآخر، عادة ما يكونون متوترون بشكل زائد وثقتهم بأفعالهم تحتاج إلى تقوية ودعم.
يقول علماء النفس أن الشخص الذى يقع تحت استفزاز شخص آخر، لو قام بأخذ نفس عميق وعاد إلى الوراء خطوة أو خطوتين فسوف يقوم بإرهاب الطرف المستفز، ويقول علماء الطاقة أن الشخص الواقع تحت استفزاز لو صمت لمدة ثانيتين أو ثلاثة أو لبضع ثوانى وألصق لسانه فى أعلى تجويف فمه فسيسيطر على انفعاله، ويقول البعض أن هذه هى فكرة قول ( لا إله إلا الله ) وأنها تبعث الهدوء والسيطرة فى المواقف الضاغطة.
ولا ننسى أنه ما من مانع إن يكون الرد مع بعض الأسئلة الغبية باللا رد، أو بالاكتفاء بابتسامة أو بنظرة وصمت، لأن بعض الأسئلة التى لا يمكن الإجابة عنها، ليس من المهارة الرد عليها من أمثلة؛ ( انت ماتجوزتش ليه لحد دلوقتى ؟، أو انت مخلفتش ليه لحد دلوقتى ؟، أو انت بتقبض كام ؟، أو انتو كنتو بتقولوا ايه وانتو بتوشوشوا بعض ؟
فليس لكل الأسئلة إجابات وليس لكل الكلام رد، فهناك الكثيرون ممن يقولون كلاماً لا يقصدونه وإنما ( أهو أى كلام فارغ وخلاص )، تماما كما قال لى إبنى ( أنا هاهرب من البيت وفى نفس الجملة ( انتى عايزة آيس كريم وانا جاى ؟)، فهو بالفعل لا يعنى جملة ( أنا هاهرب من البيت )، ولكان من الغباء أن آخذ الجملة على محمل الجد وأكمل معه فى نقاش وجدال ( ووجع دماغ ).
دعونا نتفق أن هناك الكثير والكثير مما يقوله البعض؛ لا يقصدونه من الأساس، فليس علينا الرد عليه أو القلق بشأنه، بل يمكن أن نمرره فقط، ليس ضعفاً وإنما لأنها لاتستحق، فهى غير حقيقية وغير مقصودة.
كما لا ننسى أن النظرات سلاح قوى جداً يمكننا استخدامه فى كثير من الأحيان وتوفر علينا صراعات ومواجهات، يمكن تجنبها بنظرة تقول الكثير من الكلام بلا أى كلمة.
كما لا ننسى شيئاً مهماً وبديهياً وهو أن المواقف التى تحتاج إلى رد، وقمنا برد مهذب على الطرف الآخر، فلن يقتلنا أو يأكلنا، ( إيه اللى هيحصل فى الدنيا يعنى لو رديت ؟)، فأى إنسان هو مخلوق خلقه الله، يأكل ويشرب وينام ويتكلم ويتعارك… وليس مخلوقاً فضائياً أو إلهاً منزهاً، مما يعنى أن الحديث معه والرد عليه جائزاً ومتاحاً.
وأخيراً دعونا نتفق على أن من يقول كلام ليجرح أو يستفز أو يضايق أو يعكر مزاج شخص آخر، هو إنسان ضعيف من الداخل فليس من الحكمة أن نخاف الرد عليه أو نخشى مواجهته. وأننا لو انزوينا وفقدنا السيطرة لأصبحنا أضعف منه، وهذا ما لا يجب أن يكون.