ليه كدا..هاه..ليه بجد..!
هناك عادة قديمة قدم البشر، تفشت وانتشرت بشكل مقرف فى الآونة الأخيرة وهى الغوص فى أعماق البحار والآبار وغياهب الدروب والغابات لاستخراج أسوء ما قد يجده المرء من أخبار سوداء داعية إلى النكد والحزن والضيق والأسى ونشره على أوسع نطاق عبر شبكات التواصل الاجتماعى أو الهاتف أو فى أى تجمعات، حتى يضمن أن الحزن قد عشش فى قلوب أكبر عدد من الناس.
فعلياً حالات الوفايات والأمراض زادت فى الشهور الماضية بشكل غريب، لكن لماذا نزيد الحزن حزناً والقلق قلقاً والقرف قرفاً ؟
ولماذا نسهب ونسترسل بأريحية عميقة جداً أثناء سرد قصة مؤلمة لشخص مرض أو مات أو أصيب فى حادثة أو تم تسريحه من العمل ؟؟؟؟
ولماذا لابد على الحاكى أن يحكى تفاصيل الوفاة أو المرض أو الحادث بدقة لا متناهية ؟
ليه ؟
هاه، ليه بجد ؟؟
من أجل سعدى وهنائى لدى فى هاتفى ثلاثة جروبات واتس اب لكل إبن من أبنائى الأعزاء؛ أحدهم للأمهات والثانى لإدارة المدرسة والثالث للدراسة الأونلاين، وما أدراك ما جروبات الأمهات لو نشرت أحد الأمهات خبر وفاة أو مرض؛ ما أدراك كم الحزن الذى يستمر لأيام، والجميع مضطر لقراءة جميع الرسائل لعل من بينها خبر هام عن الدراسة أو الامتحانات.
منذ حوالى أسبوعين وكان شيئاً مؤسفاً وغريباً أن ثلاثة مدرسين من المدرسة توفاهم الله فى نفس الأسبوع تقريباً ومن بينهم مدير المدرسة الذى يحبه الجميع، وبالفعل لم أرى شخص واحد ذكره بسوء، وكان فى قمة الإبداع فى جعل الطلبة يحترمونه ويرتعبون من صوته العالى جدا وفى ذات الوقت يضحك ويمرح ويلتقط معهم الصور بشكل يومى وبخفة ظلة طااااغية.
بالطبع خيم الحزن على بيوتنا جميعاً وعلى جميع الطلبة الذين كانوا يعتبرونه أحد أهم أسباب إرتباطهم بالمدرسة، والذى لا أتخيل أنا شخصياً أنه اختفى ولن نراه مجدداً وإلى الأبد أو كيف سيكون حال المدرسة بدونه ؟
(كلنا متنكدين أهو وولادنا كلنا بيعيطوا، حلو كدا ؟)
وإذا بجروبات الأمهات ( عينك ما تشوف إلا النور ).
ومن حين لآخر تجد إحدى الأمهات وعلى ما يبدو أنها وبعد أن انتهت من أعمالها وأصبح لديها وقت فراغ فتمسك بهاتفها وتفتح جروب الأمهات حتى تنكد على أهالينا، فتسجل لنا صوتياً حديث الأربعاء لمدة 6 دقائق، 6 دقائق من النكد والكلام من قبيل أننا لن ننسى مستر فلان وأنه كان أباً وجداً وأن كل ذكرياتنا معه ستؤلمنا وأن أبنائها فى المنزل يبكون ليل نهار وأنها قابلته فى الأسبوع السابق لوفاته وكان فى أتم صحة وأنه يقف فى كل المشكلات ليحلها وفى كل الصعاب ليسهلها وأن مستر فلان المتوفى الثانى كان مريضاً وأنها فى شدة الأسى على مرضه، وأن المدرسة المتوفاة الثالثة كانت مريضة أيضاً وكانت علاقتها بها قوية وكانت تفعل كذا وكذا، وأنها لا تتخيل الحياة بدون هؤلاء الثلاثة !
6 دقائق يا مفترية ؟
6 دقائق من النكد المتواصل ؟
نعم 6 دقائق !
ثم تدخل أخرى لتزايد عليها وتثبت أنها أكثر حزناً وأن أبنائها أشد بكاءاً فتتحفنا بتسجيل صوتى لمدة أطول وهى 8 دقائق.
8 دقائق جديدة من النكد ؟
نعم !
ثم تدخل ثالثة لتتعجب وتنبهر من غرابة حدوث الوفايات الثلاثة فى أوقات متقاربة، وكأنها تقول معلومة مجهولة وجديدة لا نعلمها.
ثم تدخل رابعة لتسأل ( إحنا لازم نسأل هما ماتوا ليه، هل كان عندهم كورونا ؟ ولا فطر اسود ؟ ، ما دلوقتى اللى بيجيله كورونا بيجيله فطر اسود، خلاص يا جماعة اللى عنده إعدادية ميوديش ابنه )
فيفتحون فى فيلم الكورونا وتتذكر كل واحدة منهن الأحداث عندما أصيبت جارتها وعندما أصيبت أختها وعندما مات صديق زوجها ويقصون تفاصيل وزمان ومكان الوفاة والأدوية التى تناولها المتوفون.
ثم يفتحون فى فيلم الفطر الاسود ويتحفوننا بمقاطع فيديو وتسجيلات صوتية تنشر الهلع والرعب بلا أى نفع.
ثم تجد أماً تدخل لتقول ( إلحقونى يا جماعة بصوا الولد بيتنفس ازاى ؟ )
وتهدينا مقطع فيديو لطفل عمره عامين تقريباً يتنفس بصعوبة شديدة جداً وتقريباً مغشياً عليه، وتقول أن نسبة الأكسجين فى دم الطفل 70 !
بادئ ذى بدء ( هنلحقها من الجروب ازاى ؟ )
ثانياً إن كان هذا الطفل مريض إلى هذا الحد فكيف يتركوه مريضاً هكذا ثم يقررون أن يصوروه وينشرون الفيديو وينتظرون التفاعل ويتفرغون ل(التشات والرغى).
والأدهى والأمر أننا بعد كل هذا الغم نكتشف أن هذا الطفل إبن صديقتها وليس له أى علاقة بالمدرسة التى من المفترض أن يكون الحوار فى الجروب عنها.
طب بتقطعوا قلبنا على الولد ليه ؟
بجد والله، ليه كدا ؟
ثم يتلو هذه الأخبار 52874 رسالة من قبيل ربنا يشفيه لو الحديث عن مريض أو الله يرحمه لو الحديث عن وفاة.
تفتح الفيسبوك فتجد كل من توفى له جار أو زميل أو ابن عم أو ابن خال أو عم الزوجة أو خال الزوج أو سائقه الخاص أو بائع السوبر ماركت بالشارع المجاور الذى كان عشرة عمره أو زوج عمة الزوجة أو حماة إبنة الخالة، ليخبر الجميع وتخيل أن حساب فيسبوك يحوى 2000 أو 3000 صديق كم سيكون عدد الوفايات التى يعلم بها كل يوم.
أتفهم المفاجأة القاسية لمن توفت أمه أو توفى أبوه أو إبنه أو أخوه أو زوجته أو زوجها، ستكون الصدمة قاسمة ويحتاج إلى دعم أصدقائه بالفعل وهؤلاء أدعمهم من كل قلبى وبمنتهى الترحيب.
ولكن أبناء خالة الزوجة وأعمام الزوج ( مش شغلنا خالص ).
لماذا نعشق الأخبار السوداء والزرقاء ونحجب البيضاء ؟؟؟
لماذا هذا الرباط المقدس بالبؤس والنكد والتسابق على إثبات أن الكآبة حاضرة فى كل مكان ؟
ولماذا لا ينبئون وينشرون أخبار النجاح أو الانتقال إلى عمل أفضل أو بيت جديد أو أى خبر يسرّ حتى وإن كان شراء كلب جديد أو حوت قديم ؟؟؟؟
المأساة فى الأمر أن من يحاول إدخال جو من التفائل والبهجة ينعتونه بالبلادة وضعف الإدراك وأحياناً بالعته وبأنه لا يشعر بمن حوله وأنه خالى البال ومجرد من الهموم ولا تعرف المشكلات له طريقاً !
أتصور أنه من المفترض أن تكون أفعال كل إنسان لها مغزى وهدف، أما هؤلاء الذين ينشرون الغم فى كل اتجاه، ما المغزى من وجهة نظرهم وما هدفهم ؟
هل هدفهم نشر الحزن والكآبة ؟
لو أن الإجابة نعم، ( طب ليه ؟)
ولو أن الإجابة لا، فلماذا إذا يفعلون هذا الإثم ؟
إذا عُرف السبب بطل العجب !
ليخبرونا الهدف وعلى من تعود المنفعة وليكملوا نشر الغم كما يفعلون، ولكن من حقنا أن نعرف السر !!
على أى حال لا يهم هدفهم بقدر ما يهمنا النتيجة، ونتيجة هذا هو البؤس والحزن والإحباط والسلبية والتعاسة والأسى للجميع.
ينصحنى البعض أن أسرد الحلول فى نهاية كل مقال ولكنى لن أسرد حلولاً لأننا على علم بكل الحلول ولكننا نختار التعاسة.
سأكتفى بإظهار الصورة لعلنا نرى ما نفعل بعيون آخرين، فلو رأينا الصورة الحقيقية وأدركنا أن كل هذا من صنع أ يدينا، ربما نغيره والحلول لهذه الأزمة والإجابات على كل التساؤلات لدينا وليتنا نراها !