الفلسفةمقالات

من كتاب أناشيد الإثم والبراءة للدكتور مصطفى محمود

و قد يمتحن الله الرجال الأبرار بالنساء الشريرات أو العكس و ذلك باب آخر له حكمته و أسراره.
و قد سلّط الله المجرمين و القتلة على أنبيائه و امتحن بالمرض أيوب و بالفتنة يوسف و بالفراعين الغلاظ موسى و بالزوجات الخائنات نوحاً و لوطاً.
و أسرار الفشل و التوفيق عند الله .. و ليس كل فشل نقمة من الله.
و قد قطع الملك هيرودوس رأس النبى يوحنا المعمدان و قدمها مهراً لِبَغىّ عاهرة.
و لم يكن هذا انتقاصاً من قدر يوحنا عند الله وإنما هو البلاء .

فنرجو أن يكون فشلنا و فشلكم هو فشل كريم من هذا النوع من البلاء الذى يمتحن النفوس و يفجر فيها الخير و الحكمة و النور و ليس فشل النفوس المظلمة التى لا حظ لها و لا قدرة على حب أو عطاء.

ونفوسنا قد تخفى أشياء تغيب عنّا نحن أصحابها. و قد لا تنسجم امرأة و رجل لأن نفسيهما مثل الماء و الزيت متنافرتان بالطبيعة، و لو كانا مثل الماء و السكر لذابا وامتزجا ولو كانا مثل العطر و الزيت لذابا و امتزجا والمشكلة أن يصادف الرجل المناسب المرأة المناسبة.

وذلك هو الحب فى كلمة واحدة : التناســـب.
تناسب النفوس و الطبائع قبل تناسب الأجسام والأعمار و الثقافات.

وقد يطغى عامل الخير حتى على عامل التناسب فنرى الرسول محمداً عليه الصلاة و السلام يتزوج بمن تكبره بخمسة وعشرين عاماً ويتزوج بمن تصغره بأربعين عاماً فتحبه الاثنتان خديجة وعائشة كل الحب ولا تناسب فى العمر و لا فى الثقافة بينهما، فهو النبى الذى يوحى إليه و هما من عامة الناس.

ونراه يتزوج باليهودية صفية صبيحة اليوم الذى قتل فيه جيشه زوجها وأباها وأخاها و شباب قومها و زهرة رجالهم واحداً واحداً على النطع فى خيبر ويتزوجها بعد هذه المذبحة فنراها تأوى إلى بيته و تسلم له قلبها مشغوفةً مؤمنةً و لم تكد دماء قومها تجف. فكيف حدث هذا و لا تناسب و إنما أحقاد و أضغان و ثارات.
إنه الخير و الخلق الأسمى فى نفس الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم، هو الذى قهر الظلمة و هو الذى حقق المعجزة دون شروط.
إنه النور الذى خرج من مشكاة هذا القلب المعجز فصنع السحر و أسر القلوب و طوَّع النفوس حتى مع الفوارق الظاهرة و عدم التناسب و مع الأضغان و الأحقاد و الثارات.
إنما نتكلم نحن العاديين عن التناسب،
أما فى مستوى الأنبياء فذلك مستوى الخوارق و المعجزات.

وما زالت القلوب الخيّرة و النفوس الكاملة التى لها حظ من هذا المستوى قادرة على بلوغ الحب وتحقيق الإنسجام فى بيوتها برغم الفروق الظاهرة فى السن و الثقافة.

ذلك أن الحب الذى هو تناسب وانسجام بالنسبة لنا نحن العاديين  هو فى المستوى الأعلى من البشر نفحة و هِبة إلهية،
و من ذا الذى يستطيع أن يقيد على الله نفحاته أو يشترط عليه فى هباته.
وإذا شاء الله أن يرحم أحداً فمن ذا الذى يستطيع أن يمنع رحمته ؟
و الحب سر من أعمق أسرار رحمتــه.
و لا ينتهى فى الحـــب كــلام.

د . مصطفى محمود
من كتاب  :  أناشيد الإثم و البراءة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع