الحد المقبول
فى سنوات تربية أمى لى ولإخوتى كانت تكرر بشكل يومى عبارات بعينها وبإلحاح طووول الوقت بشكل خااانق، وهم ( إن الله لا يضيع أجر من أحسن عمله ) وذلك أثناء المذاكرة أو الامتحانات.
( إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) وتركز فى النطق على ( أن يتقنه ). وذلك أثناء ترتيب وتنظيف البيت.
( قوموا اعملوا حاجة مفيدة ). وذلك أثناء التأخر فى النوم أو فى أوقات الفراغ.
.
( ربنا شايف كل حاجة ) وهذه عندما تؤكد علينا الإلتزام بالقواعد فى غيابها.
لتقل خيراً أو لتصمت ( أثناء الخناقات ).
( من يعمل مثقال ذرة شراً يره ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره )
وذلك فى المواقف التى تستدعى إيقاظ الضمير.
وكنا لشدة التكرار نقول لها دائماً ( خلاص يا ماما بقى، طب غيرى، إنتى معندكيش غير دول ؟ ).
وأحياناً ما نسمعهم لها عن ظهر قلب بالترتيب وكأننا حفظنا درساً.
وكانت هى لا تتوقف أبداً، وتستمر فى تكرار كل جملة منهم فى المناسبة الخاصة بها من وجهة نظرها.
ولأننا دائماً ندرك قيمة آبائنا وأمهاتنا فى وقت متأخر جداً، تقريباً بعد الزواج وأحياناً بعد الإنجاب؛ إكتشفت أن المعانى التى تحملها هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأقوال هى المبادئ الراسخة الوحيدة فى عقلى، والتى يستند عليها كل ما هو طيب فىّ من سمات شخصية أو صفات.
وأحياناً أستخدمها فى تربية أولادى حتى وإن كانوا من فرط التدين، يصمون آذانهم عن أى نصائح نابعة من الدين.
فما يشجعنى على المثابرة فى أى شئ أشك فى نتائجه هو ( إن الله لا يضيع أجر من أحسن عمله ) وما يدفعنى لإنهاء الأعمال ومحاولة إتقانها حتى تصل لدرجة من درجات الوسواس هو ( إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) وما يحفزنى لاستخدام الوقت على أفضل صورة ممكنة هو ( قوموا اعملوا حاجة مفيدة ) وما يوقظ ضميرى فى أغلب الأوقات هو ( ربنا شايف كل حاجة ) كما تشجعنى هذه العبارة على الاستمرار أحيانا ً فى فعل عمل طيب مع من لا يستحقون على أمل أن الله يرى ما أفعل وما يفعلون وسيجازى كلاً منا بما يستحق لأنه يتابع كل شئ كل الوقت.
وما يؤيد لدى فكرة الحديث عند الضرورة والصمت عند الضرورة هو ( لتقل خيراً أو لتصمت )، وما يطمئنى على العدل الذى يحققه الله فينا هو ( من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ).
هل يمكننا الآن الوصول بأبنائنا إلى درجة مقبولة من التربية، تعينهم على طريقهم وتكون شفيعاً لنا عند الله حين نُسأل عن شبابنا فيما أفنيناه ؟؟؟
هل لديهم القابلية للتقبل وهل لدينا الطاقة لنمنح ؟
هل من الممكن الوصول بهم لهذه المرحلة ( المقبولة ) ونحن فى عالم يعلمون عنه أنه ملئ بالخطط السياسية القذرة والخطط الإستعمارية الأقذر والتجسس على كل خلق الله بكل الطرق، ( يتحدثون عن مكان فتظهر لهم إعلاناته، يفكرون فى منتج معين فتظهر لهم عروض وتخفيضات لشرائه ؟ ( فيه تجسس أكتر من كدا ؟).
هل من الممكن الوصول لمرحلة مقبولة من تربيتهم وهم يشاهدون جرائم قتل الآباء للأبناء وزنا المحارم والتحرش الجنسى فى كل سنتيمتر ؟
هل نصل لهذه المرحلة المقبولة وقد بات الجميع يعلم أن هناك من خططوا ودبروا لتركيب فيروس كورونا الجديد ونشروه وأصابوا به كل هؤلاء الملايين وتسببوا فى قتل مئات الآلاف وتسببوا فى ذعر وقلق لكل سكان العالم، لتحقيق مكاسب مادية أو لتصفية حسابات سياسية أو للسيطرة على البشر أو لإجراء إختبارات لتجارب لاحقة لم تظهر بعد أو لأى سبب الله أعلم به ؟؟
كيف يرون العالم وهم يعلمون معلومات كهذه ؟؟
هل يمكننا أن نصل بهم لهذه المرحلة المقبولة والعالم بدوله كلها بلا خبر وااااااحد سعيد.
أبحث بالأيام عن خبر واحد سعيد فى أى دولة من دول العالم فلا أجد واااحداً !
إنهم يشاهدون عبر القنوات المخربة للعقول على شبكات الإنترنت والتى تهدف لتثبيط الأجيال القادمة كلها ببث أخبار كاذبة عن نهاية العالم بعد عامين وبالنيزك الذى سيضرب الأرض مساء الغد وبالشمس التى ستغيب لثلاث أيام حتى يظن الناس أن القيامة قامت، وبأفلام الجنس التى تقنعهم أن لا شئ فى هذه الحياة أهم من الجنس وكل شئ غير ذلك أمر هامشى !
أو حتى بالتركيز على الأخبار السوداء الكئيبة وكأنها مقصودة وبتعمد.
فهل يعقل أنه لا توجد أى أخبار سعيدة على مستوى العالم كافة ؟
ويصبح من يضحك أو يمرح لا يستحق إلا النعت بالخبل أو حسده أو وصمه بعدم الإحساس بالغير.
إبحث فى حسابك على شبكات التواصل الاجتماعى عن كم من متابعيك يتحدثون عن نكات أو أخبار مبهجة أو أحاديث نبوية أو آيات قرآنية أو أقوال مشهورة تصب فى وعاء التفائل والأمل فيما هو قادم، ويخبرون عن نجاحاتهم وفرصهم الجديدة وسعاداتهم وزواجهم أو إنجابهم أو أى أخبار سارة، وكم منهم لا يذكرون إلا بوستات التهديد والوعيد التى تحمل رسائل لبعض الأقارب أو الزملاء أو الأصدقاء، أو الندم أو الحزن على ما فات أو الوفايات والأمراض ؟
إحسب النسبة من فضلك وأجب بنفسك !
لمصلحة من أن يسيطر هذا الغبار على كل شئ ويملأ كل شئ حتى النفوس ؟؟؟
وكيف يتحقق لنا هدفنا فى الوصول لمصلحتنا ومصلحة أبنائنا، فى ظل هذا الصخب والجموح ؟؟؟؟؟
كانت ابنتى فى الصف الثانى الثانوى فى العام الدراسى الماضى، والذى كان جزءاً من النظام الحديث المعتمد على شبكة الانترنت ويستخدم التابلت وتأتى أسئلة المواد كلها أو أغلبها من خارج المنهج فعلياً ( مش مبالغة ) حتى أنها كثيراً كانت تسألنى ( طب احنا بنذاكر المنهج ليه ؟ ، طب احنا بنذاكر physics ليه إذا كانت كل المسائل غير اللى فى الدروس ؟؟؟) وأنا أصبرها بكلام من فصيلة ( ده منهجنا ومافيش اختيارات والندب مش هينفعنا بحاجة ).
حتى مر العام الدراسى الأول والثانى الثانوى فى هذا النظام الجديد، وجاء الامتحان فى الصف الثانى الثانوى، وبدأت ابنتى إمتحان اللغة العربية، وإذا بالامتحان يغلق الصفحة فجأة بعد حوالى 12 دقيقة من بداية الامتحان، فجاء لها المختص فى صيانة أجهزة التابلت يحاول أن يفتحه لها فيفتحه ويغلق الصفحة مجدداً، ثم يفتحه ويغلق الصفحة مجدداً ثم يفتحه ويغلق الصفحة مجدداً، حتى أغلق الإغلاق الأخير الذى لا انفتاح بعده ورغم كل محاولات مدرس الكمبيوتر المتخصص فى مثل هذه المشكلات، إلا أن هذه المحاولات كلها فشلت وانتهى الوقت، فاتصلت بها بعد انتهاء الوقت لأسألها ( إيه الأخبار ؟) فقالت ( كويس، لما آجى ) فعلمت بالطبع أن ( لما آجى ) تنفى ( كويس ).
المهم أنها وصلت البيت فجلست على أقرب كرسى وقالت ( الامتحان قفل ) !
فقلت لها : بجد ولا بتهزرى ؟
فبدأت تبكى، فعرفت أن الموضوع جد.
فسألتها قفل بعد قد إيه ؟
فقالت 12 دقيقة.
وحكت لى عن محاولات الفتح التى قام بها المدرس المختص وأنها فشلت.
وجاءت النتيجة 8 درجات من أصل 100 !!!
فهى بالطبع ترى أنها مظلومة وأنا أعلم أنها مظلومة وكنت أذاكر معها كل المواد وأعلم أنها لا تستحق هذه النتيجة ورغم كل محاولاتى للتوصل لحل مع المدرس المختص وكل التظلمات والشكاوى فى كل الأماكن المتاحة جاءت النتيجة بهذا الشكل.
هل ستستمع لى عندما أقول لها عبارات أمى التى كانت ترددها ( إن الله لا يضيع أجر من أحسن عمله، من يعمل مثقال ذرة خيراً يره…
الحقيقة أننى كنت أقولها بالفعل ( ربنا مش هيضيع تعبك، ده اللى أعرفه ) وأنهى الحديث، فتتبعنى وتقول ( باقولك الامتحان قفل ومرضيش يفتح ) فأقول لها نفس الجملة ( والله اللى انا متأكدة منه إن ربنا مش هيضيع تعبنا ).
كان ذلك فى امتحانات الفصل الدراسى الأول وكانت أزمة كبيرة وشائعة أن الكثير من الطلبة لم يفتح إمتحانهم من الأساس والكثيرون من هم أغلق التابلت صفحة الامتحان عندهم كما حدث مع ابنتى.
فأصدر الوزير قراراً بنجاح كل من قام بشكوى مشكلة غلق الامتحان أو عدم فتحه من الأساس ولكن بالطبع سينجح بدرجة النجاح وهو ظلم آخر فهى لا تستحق درجة النجاح فقط، هى تستحق أكثر من ذلك فعلياً.
هى الآن ترى أن الحق قد يضيع بمنتهى السهولة وفى غمضة عين وفكرة أن من جد وجد ومن زرع حصد غير متحققة فى هذا التوقيت، وفكرة إتعب النهاردة علشان ترتاح بكرة غير مضمونة على الإطلاق.
فهل ستذاكر اليوم وهى مقتنعة بنتيجة مجهودها غداً ؟؟
هل من السهل إقناعها هى أو أمثالها من الطلبة بأن الدنيا بخير وأن المستقبل مشرق ؟
مهما قلت لها بأن هذا النظام يهدف لمنع سيطرة المصحح البشرى لسوء تقديره أحياناً ولأخطاءه أحياناً أخرى وأن هذا النظام يساعدكم على التفكير وحل المشكلات بدلاً من النظام التقليدى الذى كان يقتل التفكير والإبداع.
فهل ستصدقنى ؟؟؟
ملحوظة :
(الامتحان أغلق لعدة مرات فى عدد من الامتحانات وليس فى اللغة العربية فقط وهذا مع زملاء آخرين لها أيضاً )
فى نفس النقرة؛ نشبت معركة ما بين إبنى وزميل له فى المدرسة أدت إلى ضرب كلا منهما للآخر وإصابة زميله بجرح كبير فى حاجبه وحاولت الاعتذار لوالدته فى الهاتف حين اتصلت بى ولكنها تحدثت لبعض الوقت ثم أغلقت الخط فى وجهى، ولم تترك لى أى فرصة للتبرير، وفى كل الأحوال لم أكن لأبرر شئ، أنا فقط كنت أعتذر ولا أقول سوى ( معلش، أنا آسفة والله، إنتى معاكى حق فى كل اللى بتقوليه، وعذرتها بالطبع.
وحاولت إقناع إبنى بكل المحاولات الممكنة بالهدوء أو الصراخ أنه كان من الممكن أن يصيبه فى عينه فيفقد الولد عينه وتقع كارثة، فلم يكن لديه رد سوى ( ماما، مالكيش انتى دعوة، يعنى هيضربنى واسكت ؟)
فذهبت إلى برنامج الرسائل ( Messenger ) فى هاتفه دون علمه فوجدت أصدقائه يبلغوه أنهم متحالفون معه ضد تحالف الطالب الخصم وزملائه لأنهم اتفقوا على تأديب إبنى جزاء لإصابة صديقهم.
خشيت على ابنى من إصابة بالغة أو لا قدر الله عاهة فقررت ألا أوقظه فى الصباح وألا يذهب للمدرسة فى اليوم التالى، وذهبت إلى المدرسة بمفردى وبذلت كل المحاولات لنقله من الفصل الدراسى الذى ينتمى إليه إلى فصل دراسى آخر، وكنت أعلم أنه سيقلب الدنيا عندما يعلم أننى نقلته من فصل أصدقائه، ولكنى كنت قد اتخذت القرار، وسرت فى طريق نقله حتى وصل الأمر إلى مدير المدرسة فطلبت منه وبعد حديث طويل اتفق معى على ( سيبيلى الموضوع وانا هاحله من غير ما ننقله من فصل اصحابه ؟) وانا أكرر الطلب ( لا معلش انقله ) وهو يكرر الجملة، وأنا أكرر ( طب انقله شهر كدا ونرجعه بعدين ) وهو يكرر نفس الجملة حتى انتهت المشكلة بفضل الله بعد أيام من التوتر ثم بمساعدة السيد مدير المدرسة عليه رحمة الله.
ويبقى السؤال ( هو ابنى المفروض يسامح اللى ضربه ويسيبه ولا يضربه ويدخلوا فى حلقة انتقام لا تنتهى حتى يرضى نفسه ؟) وهل كنت سأكون سعيدة بابنى لو كان جباناً ومهزأ بينضرب ويسامح أم يصبح من ( الصيع الشوارعية اللى بياخدوا حقهم بايديهم ؟)!!!!
وهل سيثق فى نصائحى إن كنت أدفعه للشجاعة من جهة ثم أدسه فى الجبن من الجهة الأخرى ؟
هل يمكن أن أستخدم عبارات أمى ( ربنا شايف كل حاجة، فلتقل خيراً أو لتصمت ).
وهل سينصت ؟؟؟
فى نفس النقرة جاءتنى ابنتى الصغرى يوماً باكية وهى فى الصف الخامس الابتدائى تشكو لى أن المدرسة الأولى لإحدى المواد أهانتها وألقت الكشكول فى وجهها لأنه كان ناقصاً درسين متتاليين لأنها كانت غائبة، فذهبت إلى المدرسة وقدمت فيها شكوى لدى المدير المختص بمشكلات المدرسين وحاولت أن أقابلها عدة مرات، فشلت جميعها، المهم أنها حلت المشكلة بمساعدة المسئول وشكرتها وانتهى الأمر.
وجاءت نتيجة الفصل الدراسى الأول بمجموع 98٪ وهذه المادة إضافية أى خارج المجموع ولكنها هامة لطلاب المدارس اللغات وكانت نتيجتها 9 درجات من أصل 30 درجة وفى الفصل الدراسى الثانى كانت النتيجة بمجموع 97٪ وهذه المادة 7 درجات من أصل 30 درجة.
فهل من المنطقى أن الحاصل على مجموع 98٪ يحصل على 9 من 30 ؟
وبعد عدد من الشكاوى قالت لى إحدى الأمهات ( هو كدا يا إما علشان إنتى اشتكتيها كذا مرة وكبرتى الموضوع أوى، إيه يعنى حدفت فى وش البنت الكشكول، كان ممكن تعديها يعنى ؟ ، يا إما علشان هى بتاخد أسماء اللى بياخدوا عندها درس أو حتى المراجعة وبتنجحهم لوحدهم والباقى لاء )، وانتى بقى ممكن تكون اتوصت ببنتك علشان السببين هىء هىء هىء.
وهذا ما يحدث فى أغلب المدارس وبشكل دائم !
لو واجه إنسان إضطهاداً من شخص من الكبار كما يراهم الأطفال كباراً، بينما هو طفلاً فى العاشرة، كيف سيكوّن وجهات نظره فى الحياة والتعاملات
هل يسعنى أن أقول لها كلام أمى وعبارات أمى ؟
وهل ستسمعنى ؟؟؟
والأمثلة والمواقف عديدة !
ويبقى السؤال الدائم؛ هل يمكن أن نصل بهم فى ظل هذا التلوث الأخلاقى إلى الحد المقبول من التربية والالتزام بالإنسانية ؟؟