مقالات نورا عبد الفتاح

إنتى حامل

كانت إمرأة غريبة الأطوار وتبحلق فى طوال الوقت، من عادتى أننى عندما أنتظر فى مكان ما أن أنظر إلى السقف وأدقق فى تفاصيله ومن حين لآخر أنزل ببصرى إلى الأرض أو إلى الجالسين أو الجمادات المتواجدة فى المكان ثم أعود إلى السقف ثانية، وكلما نزلت ببصرى ونظرت إلى هذه السيدة أجدها تمعن النظر فى بشكل مريب.

كان الإنتظار طويلاً ففتحت صفحات التواصل الاجتماعى كلها ثم أغلقت الهاتف وبدأت فى بعض الأذكار حتى ينتهى هذا الانتظار، وكلما وقعت عينى على هذه السيدة أجدها لا تزال تنظر إلى بشكل لم يريحنى، حتى أن زوجها قال لها بصوت خفيض ولكنه سمعته؛ ( مالك بتبصى لها كدا ليه ؟).

ولكنى فى أحيان كثيرة إعتدت على أن بعض الناس ينظرون إلى نظرة أننى مخلوق غريب ( فقلت عادى بقى ).

وبعد مرور بعض الوقت لم يكن يتبقى سوى هذه السيدة وزوجها والسكرتير والممرضة والطبيب، وحان دور زوجها فى الدخول فقلت الحمد لله ستقوم للدخول معه وتذهب من هنا، فقام زوجها ولم تتحرك هى فسألها ( إنتى مش هتيجى معايا ؟) فأجابت ( لاء، ادخل انت ).
فدخل زوجها وأغلق الباب وقام السكرتير فسألته ( إنت هتمشى ؟ )  وكأننى أقول : إنت هتسيبنى معاها لوحدى ؟فأجاب ( لاء، أنا رايح الحمام ).
فقامت السيدة وجلست على الكرسى المقابل لى بالضبط ولا تزال تبحلق،  ( دى جايالى أنا بقى ).

فعدت للنظر للسقف لئلا أركز معها فأزداد قلقاً، فقامت وجلست على مقربة منى وقالت : أقولك حاجة ؟
فقلت : قولى.
فقالت :
أنا باعرف أقرأ العيون والشفايف كويس جدا.
فابتسمت أنا إبتسامة بمعنى : وبعدين ،إيه المطلوب ؟
فقالت : أنا عارفة إنتى كنتى بتقولى إيه على السبحة.
أقولك ؟
فقلت : قولى.
فقالت : أول لفة كنتى بتقولى  ( اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وكنتى بتقفى عند ( وبارك ) علشان تجمعى تركيزك.

واللفة التانية كنتى بتقولى لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين وكنتى بتقفى عند سبحانك علشان تجمعى تركيزك.

واللفة التالتة كنتى بتقولى سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وكنتى بتقفى عند ( وبحمده) علشان تجمعى تركيزك.
كلامى صح ؟

والغريب أن كلامها كله صح، فقلت لها : آه، صح.
ثم قالت : واللفة الرابعة كنتى بتقولى مرة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ومرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لحد ما السبحة خلصت.
صح ؟

يا للهول !
كلامها فعلا صح.
فقلت : صح.

فقالت  : إنتى بتتكلمى بعنيكى كويس، إنتى عارفة إن ده ذكاء ؟ 

فقلت : لاء ماعرفش.
فقالت : إنتى خايفة منى ؟
فضحكت ضحكة خفيفة وقلت : لاء مش أوى.
فقالت : لاء، انتى خايفة، بس مصدقانى ومش هتقولى عليا مجنونة.
فقلت : لاء، إنتى مش مجنونة، بس غريبة شوية بصراحة.
فقالت : أنا باحب أقرأ العيون والشفايف، باحب كدا وبابقى مبسوطة، بس كل الناس بتقوللى انتى مجنونة.
فقلت : طب ما تقرأى العيون والشفايف بس من غير ما تعملى حاجات مريبة، يعنى متبصيش لحد أوى كدا زى ما كنتى بتبصى لى.
فقالت : ما أنا ماعرفش أقرأ إلا لو بصيت أوى كدا، بس مبقتش بابص إلا لناس معينة، اللى مش هيقولوا عليا حاجة، وانا عارفة انك مش هتقولى عليا حاجة وحشة.
فقلت : طب ما تحاولى تبطلى لو الموضوع بيعمل لك مشاكل !
فقالت : بس دى هوايتى الوحيدة، زى اللى بيحب يرسم أو بيحب يغنى أو بيحب يقرأ، كدا يعنى.
فقلت : خلاص اعمليها مع الناس القريبة منك بس، علشان انتى متضمنيش ردود أفعال الأغراب.

ثم خرج زوجها فوجدها جاءت للجلوس بالقرب منى وهو بالطبع يعلم بهذا السر، فجاء ضاحكاً يقول ( طبعا قالت لك أنا عارفة إنتى كنتى بتقولى إيه على السبحة وباعرف أقرأ العيون والحاجات دى، معلش احنا آسفين).
فقالت لزوجها : على فكرة هى ماتضايقتش ومقالتش عليا مجنونة.
فقال لها ضاحكاً : يا شيخة روحى، وهو يسحبها لتقوم لأنها تريد الاستمرار فى الحديث.
فقال لها: يلا، هى هتدخل للدكتور.
فقالت له : طب هاستناها لما تطلع.
فسحبها زوجها وقال: يلا، وقال لى : سلام عليكم، وذهبوا.
وهى تقول : طب ممكن تدينى رقم تليفونك ؟
وأخذها زوجها وذهبوا.

ملحوظة : أود أن أثنى كل الثناء على طريقة تعامل الزوج مع هواية زوجته، بعض الأزواج قد يتهمها بالجنون الرسمى ويودعها مصحة عقلية أو يحبسها فى البيت بحجة أنها تسبب مشاكل، لكنه يعلم حدود الأمر وأنه لا يستحق تصنيفه على أنه أزمة.

هذه السيدة غريبة ولكن لديها إمكانيات نادرة ولكننا نصنفها مع المختلين أو المجانين لأنها مختلفة عنا.

كذلك كانت جارتنا فى الشقة الملاصقة لنا فى بيت والدى سيدة لطيفة جدااااا وخفيفة الظل جداااا وجريئة جدااااا وكانت مختلفة عن المألوف أو كما يسميها الناس ( غريبة )، ذات يوم وكنت ذاهبة إلى بيت والدى مبكرا ولم يكن أحداً بالمنزل، فرأيت هذه الجارة الجميلة رحمة الله عليها، تغلق بابها فقلت لها ( سلام عليكم، صباح الخير عاملة إيه ؟) واستدرت فى أقل من 7 ثوان لأفتح باب شقة والدى بالمفتاح وعينى على مكان المفتاح أى أننى لم أطل النظر إلى وجهها على الإطلاق، فقالت لى : ( نورا انتى حامل ؟)

فقلت لها : لاء.
فقالت : لاء إنتى حامل.

فقلت: يا شيخة ؟ محدش قاللى.

فقالت : أنا مش باهزر، إنتى حامل بجد، أنا متأكدة.

فقلت : هو أنا مستنية إنى أبقى حامل، لكن actually أنا مش حامل.
فقالت : هتشوفى.
وذهبت.
وبعد أيام علمت أننى حامل بالفعل.

نفس هذه الجارة الجميلة كانت تأتى أحياناً للجلوس معنا عند أمى لأن عمرها فى المنتصف بين أعمارنا نحن كأبناء وعمر أمى، فكانت قريبة فكرياً منا ومن أمى.

لى أخت رزقها الله بطفل توحد، وأطفال التوحد دائما ما يكونون مفرطو الحركة والكلام والصراخ، وكان الجميع يدلله لأنه مريض، ولكنى كنت أدلله أحياناً وأعنفه أحياناً كثيرة وكنت أحاول إقناع الجميع أنه متوحد ولكنه لابد وأن نسيطر على سلوكياته، ولم ينصت لى أحد، على العكس كانوا يظنون أننى أؤذيه ولا أقدر معاناته، وكانوا يقولون لى ( هيكرهك ).

ولكننى كنت دائماً أشعر أنه يحبنى وأننا قريبان من بعضنا بشكل قد يزيد عن قربه لبعضهم.
فى إحدى جلساتنا مع هذه الجارة، قالت لى ( على فكرة الولد ده بيحبك أوى )، فقلت لها : ده كلهم بيقولوا لى انتى بتغلسى عليه وهيكرهك )
فقالت لى : ( لا، طبعاً، ده بيحبك جدا، مالكيش دعوة باحد).

كيف عرفت بالحمل، الله أعلم
وكيف عرفت بأن ابن أختى يحبنى على الرغم من أنه لا يبدو أى شئ ينم عن أى حب، الله أعلم.

السيدة الأولى وجارتنا رحمة الله عليها؛ لديهما ملكة ما تمكنهم من الوصول إلى أشياء لا نصل إليها، وبدلاً من أن نعترف أنهم يمتلكون ما لا نملكه، نقول عنهم ( دول ناس غريبة أو مجانين ).

 
السيدة الأولى يحتويها زوجها وجارتنا الجميلة تحتويها جرأتها وثقتها فى قدراتها ولكن بعض المختلفين لا يحتويهم أحد بل ينعتونهم بالاختلال والضياع والجنون لمجرد خروجهم عن المعروف والتقليدى أو حتى التعبير عما بداخلهم، فأغلب الناس يطمئنون للتشابه والنسخ المكررة أكثر من إطمئنانهم للجديد أو المختلف، ويظل الناس يشعرون تجاههم بالغرابة حتى يصدق هؤلاء أنهم غريبون أو مجانين بالفعل !

حتى أن حروف كلمة مختلين قريبة من حروف كلمة مختلفين، فنحن نعتبر الاختلاف خللاً يجب ضبطه بإعادته إلى التقليدى والمكرر!!

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع
%d مدونون معجبون بهذه: