قصص مُعلّمة

هذا هو رجُلى

قالت: كان أميًا، لا يفقه شيئاً بالحب، ويقضي وقته في البناء، وحين يعود يتناول غداءه ويصعد للعلية ليكمل ما تبقى من وقته مع الطيور..

كان يحدثني كل ساعة لدقيقة أو دقيقتين، يطلب مني أي شيء؛ قهوة، شاي أو يسألني عن أحدهم.
فإذا كنت حزينة أو منزعجة وجدته أمامي بوقت قياسي، ورأيته يحاول أن يتحدث معي في أي شيء لأخبره بم حدث معي أو لي.
ثم لا أعرف كيف!
بلا أن يعانقني وبلا أن يقول أي كلمة حب، كان يعيد لي مزاجي ولا يخرج حتى أغدو بخير!
كنت أمرض كثيراً، لكنني دائماً كنت أكابر عن مرضي وأدعي أني بخير، حتى استعصى علي مرضي ذات مرة وسقطت سقطة مريعة لأكثر من أسبوع لم أقوى به أن أفعل أي شيء!
توقعت منه أن يتحملني، فهو لم يكن قاسياً ذات يوم، لكن مالم أتوقعه حقاً أن يحملني وكل تعبي بهذا الشكل!
لم يذهب ذاك الأسبوع للعمل، ولم يتحدث مع أيِّ صاحبٍ له، وحتى الطيور كان يذهب لها حين أغفو، ثم يعود لي سريعاً.
لقد كان يفعل كل شيء أريده بلا أي تذمر أو تثاقل ولا أبالغ إن قلت أنه كان يفعل كل ما أريده قبل أن أقوله!

وفي الليل، حين أفقت من النوم ووجدته ينظر لي، قال على الفور: لم ترتفع حرارتك الحمد لله، لقد بدأتِ تتحسنين،
ابتسمت وقلت: الحمد لله.
بدأ يصب لي الشاي، ثم قال وهو يقرب الكوب مني: شاي بالقرفة لا أعرف إن كنتِ ستحبينه أم لا، لكني أردت أن أعدّ لك شيئاً جديداً.

فقلت وأنا أتأمله: أيمكنني أن أسألك..
شعرت وكأنه قد فهم السؤال، إذ ارتبك وأبعد نظره عني مرتشفا رشفة شاي، فقلت: هل تحبني؟
صمت قليلاً وهو ينظر للتلفاز، ثم قال: أولستِ زوجتي!
تمددت على ظهري وقلت وأنا أنظر للسقف:
أولستِ زوجتي..
هه!
حين كنت أسمع صديقاتي وهن يتحدثن عن حب أزواجهن لهن، الهدايا والأشعار والأغاني كنت أشفق على نفسي، أين أنا من هذا كله!
وحين كنت أعود وأنظر لك، كنت أشعر بالهزيمة والخيبة.
إذ لا يمكنني حتى أن أتخيلك وأنت تقول لي شيئاً رائعاً!

وحين كنت أرى ذلك ينقلب بعد مدة وكيف يخونون ويكذبون، كنت أبتسم في قرارة نفسي وأقول: على الأقل هو لم يكذب، إنه لا يحبني دائماً.
اتكأت على كفي وقلت بنبرة مشاغبة:
الآن إن سمعتهم يتحدثون عن الحب، سأخبرهم أنك أعددت لي شاياً بالقرفة!
نظر لي وضحك، ثم قال: تسخرين!
على فكرة، لقد استغرقت ساعة وأنا أعده.
ضحكت وقلت: انظر إلي.
نظر لي، فقلت: قلها!
تنهد ثم وضع الكوب على الطاولة وقال:
هي كلمة سهلة..
أسخف شيء يمكن للمرء أن يفعله أن يقول لأي شخص أنه يحبه!
وربما أنتِ محقة انا لا أعرف كيف أقلد طقوس المثقفين، فأنا كما تعرفين؛ رجل أميّ، لم يحدث يوماً فتاة.

لكن ما أعرفه جيداً أنني رجل !
وقد علمني والدي أن الرجل هو من يسبق قوله عمله!
وهكذا كنتِ دوماً في قلبي بمنزلة لا يناهزك بها أحد، لا أحد يمكنه أن يجعل من يحبه سعيداً دائماً، لكن على الأقل يمكنني أن أحاول قدر الإمكان ألا أجعلك تحزنين !

وهذا أقصى ما يمكن لرجل أمي فقير مثلي أن يفعله حين يحب!
أمسك الكوب وارتشف منه ونظر نحو التلفاز:
ومادمت قادراً على العمل، فلا أرى أي داعٍ لأن أقول !

ضحكت حينها من قلبي وقلت: يااه،  لكنني رجل!
أتعرف ؟
ليذهب الحب كله للجحيم، إن لم يكن كما رأيته منك.

اعتدلت بجلستي وحملت كوب الشاي ثم قلت ممازحة:
ولتذهب الكلمات للجحيم أيضاً.
كما يقولونها الحب لا يطعم خبزاً.
ضحك، فقلت بعد أن ارتشفت رشفة منه:
يا سلام.
بربك، أين أضع كل كلام الحب في العالم، أمام كوب شاي  واحد كهذا!

فرفع حاجبيه مفاخرا: أرأيتِ ؟
نهضت من مكاني وجلست بجواره، فقال: مجنونة، ماذا تفعلين!
قبّلت خده، ثم احتضنت ذراعه بحب واتكأت برأسي على كتفه وقلت:
بحق، أنت أجمل هدية حباني الله بها، لا حرمني الله منك!
فابتسم وضمني إليه وهو يربت على كتفي:
ولا حرمني الله يوماً من هذه الضحكة التي أحب..

ومنذ ذلك اليوم، كلما رأيت إحداهن تتحدث عن الحب، ضحكت وقلت لها: عيشي الحب كما شئتِ، ولكنك لن تتذوقيه بحق حتى تجدين ذلك الرجل الذي لا يعرف كيف يقوله، بل كيف يصنعه!
ذلك الذي حين تخذلك الحياة وقوتك وكل رفاقك، تجدينه في ظهرك جبلا لا تهونين عليه.
ذاك الذي ربما لن تتمكني من أن توسميه بحبيبي، عشيقي، مغرمي.
لكن قلبك سيبتسم دوماً كلما رأيته يتحرك أمامك وتقولي بكل فخر: هذا هو رَجُلي!

العنقاء.
رجاء فوزي.
حكايا نوفمبر.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع