مقالاتمقالات نورا عبد الفتاح

ذكاء ما بعد الصدمة

كنت فى أحد المولات التجارية أنتظر خروج ابنتى من أحد المحلات وقد تأخرت لفترة ليست قصيرة وكان المحل بجوار أحد الكافيهات، وتجلس فى جانب بعيد سيدة بمفردها ومعها طفل فى حوالى الثانية من العمر، بدى عليه الارتباط الشديد جدا بها، كان الطفل لا يكف عن الجرى والاختباء بعيداً وهى لا تحرك ساكناً، ولا تقوم للبحث عنه ولا حتى تنادى عليه، مهما ابتعد الطفل، وكنت أتابع الطفل بعينى حتى لا يبتعد أو يسقط على السلم الكهربى أو يصدمه أحداً فيقع، وأنظر لها من حين لآخر فأجدها كما هى وكأنها أقسمت بعدم القيام لإحضار الطفل، ولما فقدت فيها الأمل، كنت أذهب إلى الطفل وأحضره لها فيجلس لثوان ثم يقوم ليجرى بعيداً فأحضره لها، وفى كل مرة أعيده لها أبتسم إبتسامة تعنى ( وبعدين بقى، ما تقومى تجيبى ابنك )، ولكن لا فائدة، ومهما وقع الولد على الأرض ومهما رأتنى وأنا أجرى وراء الطفل لإرجاعه، إلا أنه لم يبدو عليها أى استعداد للقيام.

المهم أننى ظللت أجرى وراء الطفل حفاظاً على سلامته حتى خرجت ابنتى من المحل وكنت سأنصرف من هذا المكان، فأحضرته لها وقلت ( على فكرة أنا ماشية، هتسيبيه كدا ؟ )
فقالت لى ( آه طبعاً هاسيبه هههههه، ربنا هيبعتلى واحدة زيك بعد ما تمشى، تجرى وراه لحد ما أمه تيجي، أصل أنا بصى !)
ورفعت طرف ملابسها فوق الحذاء قليلاً، فإذا برجليها أرجل حديدية مركبة.
فتابعت ابنتى الجرى وراء الطفل، حيث
أكملت السيدة حديثها قائلة ( أنا باعرف أمشى بيهم، بس بامشى بطئ أوى وأول ما أمشى شوية صغيرين رجلى توجعنى من فوق على طول، علشان كدا سيبتك تجرى وراه إنتى، معلش بقى هههههه ).

فشعرت بالحرج الشديد وقلت لها ( معلش، أنا آسفة والله )، فقالت ( آسفة على إيه، إنتى فاكرانى زعلانة ؟) ( أنا مش زعلانة، أنا فى نعمة، ونعم كتير أوى كمان، مادام معايا فلوس آكل، وبامشى لحد الحمام يبقى هاعوز إيه تانى ؟)

ده أنا كمان ربنا مدينى عينين زرقاء هههه، وإيدين واسنان قوية وشعر ناعم وقلب شغال وكلى شغالة وعندى فلوس كتير أوى، وممكن أقعد أعد فى النعم مش هاخلص.

 الولد ده ابن اختى وأختى راحت تشترى لى هدية عيد ميلادى هههههه وضحكت عالياً وقالت ( عبيطة أوى بتضيع فلوسها وأنا مش عايزة هدايا ومش بالبس دهب خالص، باتخنق منه أول ما ألاقى حاجات فى إيدى كدا، بس هى اللى مصممة )
وأخويا التانى المجنون جابلى خاتم ألماظ ب 14000 جنيه وانفجرت فى الضحك، إنتى متخيلة دول هبل قد إيه ؟)

فقلت لها : يا ستى متكسفيهمش، يمكن هيلاقوكى مش بتلبسيهم، فيبطلوا.
لاء، كل سنة بيعملوا كدا، ومش بالبسهم، وبيجيبوا تانى بردو ههههه وضحكت ضحكة عالية.

أنا عارفة انهم عايزين يبسطونى، بس أنا مش زعلانة أصلاً.
أنا عندى 42 سنة وفقدت رجلى من تلات سنين يعنى استعملتها 39 سنة واشتغلت بيها كتير ولعبت رياضة كتير ولبست فيها جزم غالية كتير، فعادى بقى.

لكن هما اللى فاكرينى زعلانة، مع إنى عارفة إن فيه حكمة ورا الموضوع ده، حتى لو أنا مش شايفاها.

إنتى عارفة ؟ أنا عملت حادثة، أنا وجوزى وبنتى وابنى؛ ماتوا كلهم وأنا اللى اتبقيت ههههههههههه وظلت تضحك على هذه الجملة بصوت عالى رغم أنها جملة قاسية جداً !

وعارفة كمان نعمة كبيرة أوى أنا باحس بيها، إنى مباحسش بالوقت، يعنى عدى على رجلى دى 3 سنين وأنا حاسة إنهم شهرين تلاتة.

واخواتى كمان بصراحة نعمة كبيرة عليا، عارفة بعد الحادثة أنا سافرت مع أختى الصغيرة فرنسا اتعالجت وركبت رجلى دى، رجعت لاقيتهم إشتروا لى شقة جنبهم وكتبوها باسمى، مش باقولك مجانين ؟

فقلت لها : مجانين ليه ؟ قصدك علشان صرفوا كتير يعنى ؟
فقالت : مش كدا بس، مجانين علشان مش فاهمين إن الكلام ده كله مش فارق معايا خاااالص.

خلاص امشى بقى، لاحسن انا ممكن أقعد أرغى للصبح.

وانصرفت بالفعل وأنا فى انبهار كبير من هذه السيدة العبقرية ليس فقط لقوة إيمانها ولا للرضا العميق الذى يملأها ولا القوة الفولاذية التى تدفعها للاستمرار والضحك، حتى وإن كان ضحكاً زائفاً ويسميه علماء النفس ( اضطراب ما بعد الصدمة ) ويحتاج إلى علاج نفسى، ولكن على ما يبدو أن قوة يقينها بالله قد ساعدتها فى التخلى عن العلاج النفسى، وإن كانت فى حاجة إليه ! 

كما أن استرسالها السريع والطويل فى الحديث عن أمور متشعبة مع شخص لا تعرفه( أنا )، يندرج تحت ( اضطراب ما بعد الصدمة ) !

وحتى عدم شعورها بالوقت وبأن الحادث مر عليه فترة قصيرة رغم طولها؛ يندرج أيضاً تحت مسمى ( اضطراب ما بعد الصدمة ) ولكنها تراها نعمة، وكأنها تتمنى أن يمر الوقت سريعاً فلا تشعر بطول السنوات، حتى ينتهى عمرها كله سريعاً وتذهب إلى آخرتها التى تعتبرها هدفها الوحيد !

وإنما على قمة المزايا التى تزين هذه السيدة تربع الذكاااااء؛ فلقد رأت هذه السيدة أن حياتها الدنيا قد فسدت أو فقدت متعتها أو أصابها الفشل بشكل ما؛ فقررت ألا تفسد آخرتها أيضاً، فتكون قد فقدت الدنيا والآخرة، بل اختارت أن تعوض الفشل فى الدنيا بالفوز فى الآخرة.

فهى مع الله بشكل لا نقابله كثيراً أو قد لا نقابله أبداً فى زمننا هذا !

فهى مثلاً لا تشعر بأى ضجر تجاه فقدان رجليها، وتذكّر نفسها بباقى النعم التى ترى أنها تتمتع بها حتى فى غياب نعمة المشى !

كما أنها لا تشعر تجاهى بأى امتنان جزاءاً لمتابعة الطفل، لأنها على يقين تام بأن الطفل فى رعاية الله وأن الله هو الذى يرسل من يتابعه ويعيده لها، ومتأكدة تمام التأكد أنها ستجد بديل لى فور أن أنصرف لأن الله لن يضيع الطفل !

لا أريد أن أطيل فى الكلام حتى لا أفسد الدرر والكنوز التى أخبرت بها هذه السيدة فى حديثها وعلمتنى الكثير وأشعرتنى بالفخر لأننى قابلت امرأة مثلها ولو مرة فى حياتى، كما أشعرتنى بالسعادة والراحة لمجرد وجود مثل هذه النماذج فى الحياة، الذين يرفعون عنا الكثير من البلايا بمجرد وجودهم، ولممارستهم ما أسميه أنا ( ذكاء ما بعد الصدمة ) !

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع