التربيةمقالات نورا عبد الفتاح

إعدموا أصحاب النخلة

صديقى العزيز جداً : لدينا توجه فكرى راسخ رسوخ النخلة؛ أن الطفل الذكر لابد وأن يكون سبع السباع ورجل الرجال وسيد الناس وصوته عالى وجرئ وشجاع وقوى وضخم الحجم وشديد العصبية ومسيطر ومتفوق فى دراسته وعمله وقدراته البدنية فى أفضل أحوالها فى كل الأوقات ومسئول عن كل أفراد عائلته وعائلات القبيلة وحكيم وحلّال لكل العقد  ( على طول معاه فلوس كتير وعلى طول متفرغ وتحت الطلب……)

ثانية واحدة صديقى العزيز جدا، طب وهو فيه حد كدا ؟
مجرد سؤال.. !

أرد عليك مجرد جواب ؟
لاء، مافيش.
full stop.

يزرع الأهل ولا سيما الأمهات فى أبنائهم الذكور أنه لابد وأن يكون على النموذج المذكور فى الفقرة الأولى؛ طب ولو مش قادر ؟
لاء، مافيش مش قادر يا صديقى العزيز جدا.

اللى مش قادر ده بيتم وصفه بأقذع الألفاظ بداية من ( إنت هفية، خيخة، أى كلام، مش راجل، و… كلام كتير مينفعش يتقال.

وليس أمامه خيارات متاحة؛ حتى لو رضى لنفسه أن يعيش بعيداً عن الصراعات أو يبذل قدر طاقته أو يقوم بخدمة من حوله حسب ما يستطيع وينفق بقدر دخله ويرضى عن هيئته وحجمه ومظهره حتى ولو لم يكن يشبه الوحش أو الدب أو فريد شوقى فى فيلم عنترة ابن شداد !

حتى الرجال والمراهقون أنفسهم يتداولون فيما بينهم مفردات مفعمة بالقوة والجبروت ليست فى صالحهم ( برنس، شبح، ريس، أوسطى ، وحش…) وكأن هذا هو النموذج وكل ما عاداه فهو (أى حاجة تانية غير إنه يبقى راجل ).

يستعرضون فيما بينهم القوة البدنية والنفسية وكأن الحياة سلسلة من المعارك وعليهم الانتصار فيها جميعاً وإلا ( قلته أحسن ويجب إعدامه فى الحال ) !

هذا الجو العام لا يلائم كل الذكور فى العالم، بعضهم بنيتهم النفسية لا تحتمل الصراعات الدائمة وبعضهم بنيتهم الجسمانية لا تتماشى مع هذا المثال وبعضهم ترهقه هذه الصراعات ويتمنى لو يستريح، فلماذا نجبرهم جميعا على هذا المناخ الملئ بالصغوط والاضطراب والتوتر  ؟؟؟

القوة والشعور بالمسئولية والسيطرة والإنجاز من الصفات الفطرية للذكور، خلقهم الله بها، والذكر المتزن يتمنى لو يكون كذلك ولكن ذلك فى الأجواء المتزنة، ولكن أين الأجواء المتزنة فى عالمنا اليوم ؟

فالرجل الذى يتبع الفطرة سيتمنى لو يكون مسئولاً عن أفراد عائلته وخصوصاً الإناث، الزوجة، الإبنة، الأم، الأخت، ولكن ماذا عساه يفعل لو كانت هذه الإناث لسن إناث متزنات، فكيف له أن يصبح مسئولاً عن زوجة متسلطة خارجة عن طبيعة الأنثى أو أم لا تتوانى عن إظهاره صغيراً أمام ( اللى يسوى واللى ميسواش )، أو إبنة لا تخضع له الخضوع الفطرى المنتظر من إبنة فى وضعها ؟

فنحن نُشوّه فطرته بأساليب التربية والمعاملات الغير سوية طوال حياته، منذ أن يتعلم المشى والكلام وحتى يصبح كهلا لا يستطيع المشى أو الرؤية أو الإنجاز،  (ففى هذه الحالة يسقطون عنه هذه الشروط المذكورة، لأنه ببساطة، خلاص هيموت ).

ذات مرة كانت إحدى الزوجات تشكو لى أن زوجها يسئ إليها فى كل الأوقات بطريقة كلامه الجافة وأسلوبه الفظ وأنه لا يعتذر لها أبداً ويختلق المشكلات ويجعلها كبيرة، لا يتنازل عن حقوقه كلها مع عدم الاكتراث بحقوقها ولا يجلس للحديث معها والحوار.. وأشياء تنتهى كلها لو قاموا بالتغاضى والتغافل وتكبير الدماغ.

فقلت له ذلك وأن هذه الأمور لا تحتاج إلا القليل من الوقت والجهد ولكنه رفض بذل هذا الوقت والجهد قائلا ( واشمعنى أنا اللى آجى على نفسى ؟) ولأن زوجته ترى أن ( إشمعنى هى تيجى على نفسها بردو ) قلت له بينى وبينه ( معلش بقى، يا سيدى، خدها على قد عقلها،  اعتبرها عبيطة ) فأجاب إجابة غير متوقعة على الإطلاق وسريعة جدا؛ ( طب ما أنا كمان عبيط، إنتى فاكرانى راجل بقى وبتاع ؟) !!!

هل تتخيل يا صديقى العزيز جداً؛  لو كان هذا الرجل أظهر هذا العبط لزوجته من البداية ماذا كان من المحتمل أن يحدث، وماذا عساه يحدث لو اعترف كل الرجال لنسائهم بأنه يمكن أن يكون ضعيفا أو ساذجا أو عبيطاً أحياناً؟

أجزم لك يا صديقى العزيز أن الكثير والكثير من المشكلات ما كانت لتنشب من الأساس، لو اعترف الرجل لامرأته بصعف ما عنده فى جانب واحد أو عدة جوانب، فإن كانت إمرأة سوية فستحسن إستخدام هذا الضعف وتتقرب منه ،وتقويه بكل طاقتها، وإن فعلت العكس فهى غير سوية وهذا ما لا يعنينا الآن لأننا بصدد الحديث عن الأسوياء.

ولكن كيف يبدى ضعفاً أو عبطاً وهو قد تمت برمجته منذ زمن بعيد هو وأجداده على النموذج المثالى للرجل وأن أى تعديل فى أى تفصيلة يعنى تحوله إلى مسخ ؟

من هو مخترع هذا النموذج ومن فصل هذه الشروط وثبتها فى عقليات أغلب البشر حتى صدق الذكور أن هذا الحال هو ما يجب أن يكون عليه كل رجل وشاب وغلام وصدقت الإناث أن هذا هو النموذج الوحيد للرجل ( من رسخ جذور هذه النخلة ؟) .

ماذا يحدث لو شعر الرجل بالخوف مثلا أو الفشل أو فقد ماله أو وظيفته أو ضعفت قدرته البدنية أو كان قصير القامة أو نحيفاً أو كان فى هيئة مختلفة عن النموذج إياه ؟

ما يحدث أنه يتشكك فى ذاته، لقد نجحت التربية والعادات فى تشكيكه فى ذاته حتى أصبح لديه معتقد أنه ينقصه أشياء ليست عنده ولكنها عند الأكثر شجاعة أو الأوفر مالاً أو الأكبر حجماً.

الصبية والشباب والرجال لايُسمَح لهم ولا يسمحون لأنفسهم بالخوف أو تجنب المعارك التى تفوق قدراتهم أو خوض التجارب التى لا يضمنون نتائجها.

ذات يوم رأيت فى الشارع رجلاً ومعه صبيين أحدهما فى حوالى الحادية عشرة أو الثانية عشرة والشارع شبه خالى وفيه عدد كبير من الكلاب والصبى بطل قصتى واقف فى مكانه يفصله عن والده كلباً، ووالده ينادى عليه بعصبية ( يلا، باقولك تعالى، إنت اتجننت، انت خايف من الكلب ؟) فسألت الغلام؛  ( تحب أعديك ) ؟
فعاد الأب إلى ابنه بعض الخطوات حتى يتخطى به الكلب الذى يفصل بينهما ولكنه وقبل أن يأخذه صفعه على وجهه صفعة شديدة جدا، عقاباً له على جبنه، وكنت أمر بالقرب منهم وقت الصفعة ففزعت فزعة شديدة حتى أننى شهقت شهقة عالية، فنظر إلىّ الأب وقال ( تعديه ازاى بس ؟ ده هو اللى المفروض يعديكى )!!

صاحب الأحد عشرة عاماً ليس من حقه أن يخاف وإن شعر بالخوف فجزاءه الضرب !!

من المستفيد من هذا المناخ ؟
محدش مستفيد !
فهذا الرجل المضغوط طوال الوقت لسنوات عمره كلها ليس مستفيداً من هذا الموروث العجيب، وشريكته فى الحياة ليست مستفيدة من تواجد رجل مطالب بما لا يطيق، حتى وإن لبى لها إحتياجاتها المادية والمعنوية ولكنه شخص مضغوط، فكيف تسعد مع شخص يعانى من الضغط طوال الوقت ؟
أبنائه غير مستفيدين لأنه سيثبت نفس جذور النخلة التى ذكرناها، وسيجعلهم نسخة مضغوطة منه.
والمجتمع الملئ بالمضغوطين لا يستفيد بأى حال ؟

فبدلاً من إعدام كل من يخلً بهذه الشروط الخيالية، علينا إعدام كل من رسخوا وثبتوا جذور النخلة  !

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع