التربيةمقالات نورا عبد الفتاح

الإنسان بناء الله

أصبحت الاضطرابات النفسية تفرض نفسها على حياة معظم البشر؛ مما يفعله البشر بأنفسهم وببعضهم، من الضغوط المختلفة داخل الأسرة وفى العمل بل وفى كل مكان.

ولكن تظل الأفكار التى يتربى عليها الفرد هى الأساس فيما إذا كان سيعانى من الناحية النفسية بقية حياته أم لا !

والأفكار ليست هى القواعد والمبادئ التى يتربى عليها الطفل، فمثلاً؛ المبادئ والقواعد تشبه ( نم مبكراً، إستحم جيدا وبشكل منتظم، ذاكر دروسك، أخفض صوتك، أغلق فمك أثناء مضغ الطعام، إحترم الكبير، صلّ، لا تكذب، لا تسخر من أحد….).

هكذا تكون القواعد والمبادئ، أما الأفكار فهى أمر آخر تماما، فمثلاً تكون فى صورة؛ ( لازم تطلع الأول، إوعى تخلى حد يعيطك، إوعى تكلم بنات، إوعى تكلمى ولاد، إوعى تسيب حقك أو يا ابنى انت غلبان متقدرش تاخد حقك فى الدنيا دى، لازم تخس أو لازم تتخن، خليك زى ابن فلان، فلانة أحسن منك، متقعدش لوحدك، متنامش لوحدك، لو زعلت أمك العفريت هيجيلك، شيل مسئولية اخواتك ( وانت عندك 5 سنين) وخلى بالك منهم وهما بيلعبوا مش مهم تلعب انت، لو حد زعلك قوللى مالكش انت دعوة… مثل هذه تسمى زرع أفكار وليست تربية على مبادئ وقواعد، إخترت أمثلة على أفكار سلبية لتوضيح آثارها السلبية، وهناك منها الإيجابية وهى عكس ما ذكرت.

هكذا اتضح الفرق بين التربية على مبادئ والتربية على أفكار، المبادئ تترسخ فى العقل وتسوق الإنسان فى هدوء تام ولكن الأفكار تترسخ فى العقل فتحركه تحريكاً، المبادئ تخمَد معظم الوقت وتظهر وقت الحاجة، أما الأفكار فلا تهدأ ولا تخمد قط، المبادئ تسبب الاستقرار والثبات والأفكار لا استقرار فيها ولا ثبات، المبادئ تستمر ولا تتغير فى الغالب أما الأفكار فوظيفتها التغير والتبدل، وإن كان هذا التبدل بالغ الصعوبة !!!

أضف إلى ذلك الأفكار التى تدخل العقل وتترسخ فيه والتى يكون مصدرها الأصدقاء أو الأقارب أو الجيران، ولكن يبقى ما يقدمه الوالدين هو نعيم الشخص أو جحيمه، وهو الذى يحدد هل سيعيش حياة مريحة، وتحت مريحة 100 خط، أو حياة شقية، وهل سيعيش كئيباً أو فرفوشاً، هل سيعيش حكيماً أم أحمقاً…

مما لا شك فيه أن الآباء والأمهات وحتى الأخوة الذين يفعلون هذا الفعل، لا ينتوون إيذاء أبنائهم بأى درجة وإنما هم بتصورهم الغير علمى والمعتمد على ما تربوا هم عليه، يتخيلون أن هذا من مصلحة الإبن وأن هذا هو أسلوب التربية الصحيح بل والوحيد !

إتفق العلماء على أن أول ستة أشهر من حياة الطفل هى أهم فترة فى حياة الفرد ثم اتفقوا على أول خمس سنوات بأنها أهم فترة فى تربية الفرد وتؤثر عليه بشكل مستديم، ثم اتفقوا على أن السنين السبع الأولى هم أساس تشكيل الفرد وهم القاعدة التى ينبنى عليها كيان الفرد وأفكاره ومبادئه، ولااااااابد أن تتفرغ فيها الأم ويا حبذا الأب للاهتمام بالطفل، لئلا يختل استقراره النفسى المبنى على أفكاره التى زرعت فى عقله فى هذه السنوات الهامة ؟

هل نتفرغ ونعتبر بناء شخص سوى ومستقر نفسياً هدف يستحق الوقت والجهد والتفرغ ؟
وهل لو تفرغنا لذلك نقوم به بشكل صحيح ؟

الأفكار التى توغلت فى عقل طفل منذ ولادته بل وقبل ولادته حتى سن السابعة تؤثر عليه فى مراحل حياته كلها، المراهقة والشباب والشيخوخة، نعم تؤثر عليه حتى يوم وفاته، وقد عاش أسيراً لأفكار بعينها عمراً كاملاً ولم يستطع التخلص منها أو لم يحاول ولم يساعده أحد على التخلص منها، لأن القريبون منه هم من زرعوها !

تجد عائلات بالكامل تحمل نفس الأفكار وبنفس التوجهات وبقناعات واحدة وبتصورات عن كل الأشياء متشابهة، وفيها من الخطأ والقصور ما يدمر العلاقات ويؤذى الأشخاص ويعرقل السبل، ولكن لا أحد يغيرها أو حتى يحاول، كيف سيغير عائلة ؟

لا سيما أنه سيتهم بالخروج عن القواعد والآداب بمحاولاته لهذا التغيير، حتى أن الأم التى تجد فى أحد أبنائها اختلافاً أو تمرداً لا تراه مختلفاً، بل تراه مجرماً بالخروج عن النظام، حتى وإن كان نظاماً مختلاً بالأساس.

من المفترض أن الشخص عندما يصل إلى سن نضج معين وهو متفاوت من شخص لآخر، أن يراجع أفكاره ومعتقداته التى تمكنت منه وحركته سنوات حياته، ويفرزها يأخذ المناسب ويستبعد الغير مناسب أو الخطأ، ولكن البعض من فرط ممارسته لهذه المعتقدات أصبحت بصيرته شبه معطلة، لا يرى عيباً أو نقصاً فى تربية الأهل ويرى أنهم لا يمكن أن تصدر عنهم أخطاء وأنه من الأدب والوفاء؛ الاستمرار على منهجهم بحذافيره، وإلا يكون عاقاً.

كنا نسخر من الأفلام القديمة عندما يسأل طبيباً نفسياً بطل الفيلم عن أحوال طفولته أو تفاصيل عن سنواته الأولى؛ ولكن هذا هو ما يقوله العلم، فالسنوات الأولى هى مفتاح النفس والتصورات بالفعل وهذا ما أكدته كل الدراسات، ويؤكده كل من راجع نفسه وأفكاره القديمة بحيادية وموضوعية ليُعمل بصيرته وينتقى ويفرز ويمحص ويحفظ بعضها ويحاول التخلص من البعض الآخر مع صعوبة هذا التخلص !

لهذا يحاول المرشدين النفسيين توجيه الأمهات والآباء إلى سبل التربية الصحيحة ويعقدون لها المؤتمرات ويؤلفون فيها الكتب ويقيمون لها برامجاً بل وقنوات تليفزيونية بالكامل، لأن بناء الإنسان أهم ما يمكن أن نبنيه.

يقول الإمام على؛ الإنسان بناء الله فويل لمن هدمه، وما من هدم أسوء من هدم إنسان من خلال أفكاره !

يرى الله أن الإنسان وتكوينه النفسى يستحق الاهتمام ويذكره لنا فى القرءان الكريم دائماً؛ يحدثنا عن النفس وما توسوس للإنسان به، يتحدث عن الحزن، الخوف، الظلم، الحسرة، حتى أن أشهر الأذكار والدعوات تركز على الحزن والهم والخوف والقلق وكلها معاناة نفسية مبنية على أفكار مسيطرة وأحاسيس قد تخطئ وتستمر فى الخطأ.

خلق الله الإنسان منذ أزمنة بعيدة ووضعه على رأس مخلوقاته فى مكان أرفع من كل خلقه، ونحن الآن وبعد كل هذا التقدم الزائف والتحضر الشكلى نرى الإنسان مخلوق لا يتربى إلا على الطعام  !

الإنسان نتاج تربية أم وأب وأخوة وجيران وأصدقاء ووسائل إعلام وزملاء عمل، يبنون فيه جميعهم ويهدمون، ولكنه يبقى ليس ملكاً لأحد، لأنه كما قال الإمام على( بناء الله )، ولأنه ليس ملكاً لأحد فمن واجبه على نفسه تصفية وتنقية واختيار ما يخدمه فى بناء نفسه واستبعاد وتجنب ما يهدمها !

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع