العالقون فى الدائرة
قالوا لنا أن المتمحورون حول ذواتهم أو المتمركزون حول الذات يمارسون هذا التمحور وهذا التمركز فى فترة الطفولة وفى أحيانٱ قليلة تمتد إلى مرحلة المراهقة وهذا أمر شاذ وغير سائد.
وبما أنهم قالوا لنا أنه أمر يخص الأطفال فهم يقصدون أن به من عدم النضج وقلة الإدراك الكثير، حيث يفترض أنه مع النضج ونمو العقل والخبرات تتوقف هذه الرؤية المحدودة تلقائيٱ ويحل محلها الرؤية الكاملة والتصور الواسع للأمور، ولكن لدى هؤلاء عدم إكتمال فى النضج وقصور فى الإدراك.
فالإنسان عندما يدخل مرحلة الشباب بل وقبلها يكون قد أدرك أنه مجرد شئ بسيط من بين ملايين الأشياء والأشخاص فى هذا الكون وأنه ليس مهمٱ لأحد ولا يمثل محور فى حياة أحد ولا يلعب دورٱ خطيرٱ خالِ من البدائل، بل إنه مخلوق ضعيف وسط ملايين المخلوقات من بشر وطيور وحيوانات وأشياء مادية وجمادات لا يحصى لها عددٱ، فيعرف قدره ويرضى به ويعترف بحجمه فى هذا الكون الكبير.
وتظل نظرة هؤلاء للأمور كلها من جانبهم فقط، وجميع الجوانب والحيثيات والإحتمالات والتفسيرات الأخرى غير واردة فى عقولهم، لأنهم لم يضعوا أنفسهم قط مكان الطرف الآخر ولم ينظروا إلى أى قضية بعين الآخر، ولم يحللوا فكرة أو نظرية أو حدث إلا فى الجزئية التى تخصهم من الفكرة أو النظرية أو الحدث.
حديثهم مملٱ ومكررٱ، لا أحد يتمنى مجالستهم أو إجراء حوارات طويلة معهم، فلا أحد يتمنى الجلوس مع شخص كل حديثه عن نفسه وحياته ووجهة نظره فى كل شئ، وحتى إن حاولت أن تجره إلى قضية عامة أو موضوع شامل جرّك هو إلى الجانب الذى يخصه فقط من هذه القضية الشاملة أو العامة، أو غير الوجهة وأعادها إلى إتجاهه وعلى هواه فيما يستهويه ويطمئنه.
وهكذا لا ينظرون نظرة موضوعية قط ولا يجيدون الحيادية على الإطلاق.
كما تتقلص علاقاتهم ولا يتبقى منها إلا القليل، فأغلب الناس تضج من القصص المكررة التى لا تدور إلا عنهم.
قالوا لنا الخروج عن الذات ينتج حكمة؛ والتمحور عليها ينتج جهلٱ.
وقالوا لنا أن أفضل ما نفعله لذواتنا أن ننساها ونسلمها للواجب وهذا ما تلخصه فكرة العبودية لله.
وأظن أن لهذا التمركز حول الذات حلٱ سهلٱ جدٱ وبسيطٱ وهو محاولة الشخص البالغ الذى تخطى العشرين أو الثلاثين أو الأربعين مما يسمح له بمراجعة نفسه ومحاسبتها؛ أن يخرج من ذاته إلى الآخرين ومن مشكلاته إلى مشكلات الآخرين ومن وجهة نظره إلى وجهات نظر الآخرين، ويحاول فهم العلل وراء أفعال من حوله ويدخل فى عقولهم ويخمن أسباب الأحداث التى وضعتهم فى مآزق معينة، ويجرب لأول مرة أن يضع نفسه مكان الآخرين.
وليجرب أن يخرج من ذاته إلى التأمل فى الكون؛ الحيوانات والسماء، البحار والأشجار.
أو حتى يتأمل الناس؛ كيف يفكرون، يعملون، يتحدثون، يتعاركون، يحكمون وكيف يفكرون.
وسيجد الدنيا أرحب وأوسع من ذى قبل؛ أيام أن كان داخل دائرته ويخشى الخروج منها مهما حدث !