علم إجتماع

ثقافة النكد فى العالم العربى


د. صالح سليمان عبد العظيم

قد يخرج المرء من بيته مُبتهجاً فإذا بأخيه أو بصديقه أو بجاره يقابله، يقص عليه مشاكله وأمراضه وأوجاعه، يحيل بهجته إلى شقاء ونكد. وقد يُقبل المرء على أخيه أو صديقه أو جاره يُبلغه خبراً سعيداً في حياته فإذا بهذا الشخص يقلب الخبر رأساً على عقب ويُكسبه طابعا مأساويا ينقله من جانبه المُبهج إلى جانبه المُكئب.

وقد يعود الزوج إلى زوجته سعيداً بلقائها ولقاء أطفاله، فإذا به يجد زوجة نكدة تحيل حياته وحياتها وحياة أطفالهما إلى شقاء وجحيم. وقد يعود زوج آخر كئيب إلى زوجته التي تنتظره في سعادة وبهاء، فإذا به عبوساً شقياً لا يُظهر سوى وجه كالح، وشكوى مستمرة، وتذمر دائم.

انتشرت هذه الممارسات النكدة بين ربوع أوطاننا العربية، ولا تقف المسألة هنا عند هذا الحد، بل تتعداها إلى اللقاءات اليومية العابرة. فزملاء العمل يتقابلون بدون سلام ولا كلام، لا يتحدثون ولا يتحاورون، ويتوجسون في بعضهم البعض. في المصاعد وعلى درجات السلم، لا يبتسم الناس لبعضهم البعض، إما رغبة في الحيدة والعزلة والانقطاع عن الآخرين، وإما تعاليا على المحيطين، ورغبة مريضة في التمايز عنهم.

ولعل ذلك يفسر طبيعة مناخات العمل العدائية المصحوبة بكم هائل من الشقاق والكراهية وترصد الآخرين. ففي ظل هذه الأجواء النكدة والمتربصة يصعب أن يتواصل العمل بشكلٍ سلس وبسيط، حيث تُحاك المؤامرات، وتُنسج الشباك، وتتحول قواعد العمل المتعارف عليها إلى قواعد سرية تتم من أجل البعض ولصالح البعض على حساب البعض الآخر.

لماذا يُصدِّر الكثيرون في تعاملاتهم اليومية هذا الوجه النكد، وهذه الكآبة المتواصلة؟ ولماذا اختفت الابتسامة والانشراح في حياتنا اليومية؟ هل تلعب الظروف الاقتصادية الضاغطة دوراً في هذا النكد القومي العام؟ وهل تلعب الأوضاع السياسية المتردية في عالمنا العربي دوراً ضاغطاً آخر نحو المزيد من النكد والعبوس؟ وهل للبهجة والابتسامة علاقة أساساً بالاقتصاد والسياسة، وكل هذه الجوانب المجتمعية الكبيرة والمتسعة؟ وهل محكوم على العالم العربي أن يواجه أدران السياسة والاقتصاد من جانب وثقافة النكد والاكتئاب المستشرية من جانب آخر؟

الواقع أن ثقافة النكد لا تنفصل بدرجة أو بأخرى عن السياق العام المحيط، فالمشكلات العديدة التي يواجهها المواطن العربي تؤدي لا محالة إلى المعايشة اليومية لهذه المشاكل التي تبدأ من البحث عن لقمة العيش إلى تعليم الأبناء ومشاكل البحث عن سكن..إلخ لكن الملاحظ أن توافر الثروة أيضاً لا يخلق البهجة والسعادة، وينحي جانباً ثقافة النكد.

فالثروة لا تُطلق التلقائية والعفوية في التعامل مع الآخرين، كما لا تدفع الشفاة للابتسام في وجوههم؛ فكما للندرة ثقافة النكد الخاصة بها، للثروة أيضاً ثقافة النكد الخاصة بها.

وهناك أسباب عديدة تدفع لاستشراء ثقافة النكد في عالمنا العربي. أولى هذه الأمور وأكثرها شيوعاً هو الخوف من الحسد وعيون الآخرين، الذين نتخيل دائماً في معاملاتنا اليومية أنهم يرقبوننا ليل نهار، يفتشون وراءنا، يحاولون معرفة أسرارنا وخبايانا. واللافت للنظر هنا أن هؤلاء الذين نخاف منهم ونخشى حسدهم، ونهاب عيونهم، هم في الغالب الأعم من الأقارب والأصدقاء الأكثر صلة بنا، والأكثر معرفة لأحوالنا.

من هنا تنتشر ثقافة النكد رغبة في اتقاء الحسد من هؤلاء الأقارب، ومن هنا ينتشر الكذب، وادعاء أشياء سلبية كثيرة حدثت لنا ولذوينا. قد تقابل شخصاً فيخبرك أن ابنه مريض، أو أن سيارته لا تسير على ما يرام، أو أنه هو شخصيا يعاني من آلام المعدة المبرحة التي لا تتركه ليل نهار، وتقض عليه مضاجع النوم.

وفي كل الأحوال المرتبطة بهذه النوعية من الشكاوى يصبح الكذب والإدعاء هو سيد الموقف ودليل العلاقات القائمة بين البشر. يلعب الخوف الشديد من الحسد هنا دوراً كبيراً في انتشار هذا النوع من الكذب الذي يؤدي بدوره إلى انتشار ثقافة النكد، فالكل يختلق قصصاً نكدة كئيبة غير صحيحة.

وتخيل معي عزيزي القارئ، شخصين التقيا معا، وكلاهما يحمل خاصية الخوف من الحسد مع ما يستتبعها من اختلاق لهذا النكد وتلك الأكاذيب، ماذا سوف يكون عليه حال الحديث فيما بينهما؟ لا يعني هذا أن كل من يشكو شيئاً لصديق أو جار هو شخصٌ كاذب، لكنه في ظل استشراء هذه الحالة من الكذب والادعاء يصبح المرء في حيرة من أمره، أيصدق ما يقال له؟ أم يرفضه ويكذب قائله؟

وثاني هذه الأمور يتمثل في غياب التلقائية والعفوية من حياتنا اليومية، فالعلاقات بين البشر العاديين في حياتهم اليومية تتم من خلال أجواء مخابراتية ارتيابية، حيث تصبح الابتسامة تعبيراً عن مكيدة، ويصبح السلام تعبيراً عن رغبة في الحصول على مصلحة ما، ويصبح الهمس إشارة إلى تأسيس شلة جديدة. أما أن تسير الأمور بشكلٍ طبيعي وعفوي وتلقائي، بحيث لا يتم تأويل التعاملات اليومية بمثل ما عليه الحال في حياتنا اليومية العربية، فهذا أمر غير وارد وغير قابل للحدوث.

وأخشى أن أقول بسيادة عقلية التآمر في علاقاتنا اليومية، وهو بالتأكيد ما ينشر ثقافة الخوف والتوجس بين البشر، وبالتالي يؤدي إلى العبوس والنكد والخوف من الآخرين.

يرتبط بما سبق، الأمر الثالث الذي يتعلق بسيادة بنية أبوية عربية مستبدة، لا تسمح بالانطلاق والتحرر والعفوية والتلقائية. فمسألة احترام الكبير تصبح سيفاً مُسلطاً على بنية الممارسات اليومية، حتى ولو كان هذا الكبير لا يستحق هذا الاحترام والتقدير، وحتى ولو كانت ممارساته وسمعته على الضد تماماً من هذا القدر من الاحترام والتقدير الذي يكيله له الآخرون، الذين في الغالب يتملقونه ويتجنبون شروره وألاعيبه.

ففي كثير من مؤسسات العمل الرسمية يضحك المحيطون حينما يقول الرئيس شيئاً، حتى ولو كان تافهاً لا يستدعي الضحك، وهو ضحك مفتعل غير نابع من القلب، وغير نابع عن رغبة حقيقية في الضحك والتسامر.

هذه البنية تنتقل أيضاً من مستوياتها الرسمية إلى المستويات الأخرى اليومية، حيث يصبح الزوج سيداً مهاباً لا يلاطف أولاده ويتبسط معهم، ويصبح المدرس سيد الموقف على طلابه وتلامذته، لا يسمح لهم بمناقشته أو الاعتراض على أفكاره.

تفرض البنية الأبوية هذه نفسها بإطلاق على جانب كبير من ممارسات حياتنا اليومية، حيث تنتقل معها مفاهيم مغلوطة مثل مفاهيم الرجولة والذكورة.

والخطورة في انتشار هذه المفاهيم الجامدة أنها تلقي بظلالها الثقيلة على أكثر العلاقات حميمية ووداً مثل العلاقة بين الوالد وأبنائه، أو العلاقة بين الزوج وزوجته، أو العلاقة بين الأستاذ وطلابه.

حيث تصبح العلاقة جامدة محكومة بمثل هذه التصورات الأبوية الجامدة. وتخلق هذه العلاقات الأبوية الجامدة قدراً كبيراً من الكآبة والجمود. كما تكون مصحوبة في الوقت نفسه بعلاقات ذيلية خانعة من جانب، وعلاقات استعلائية تسلطية من جانب آخر.

إننا في العالم العربي، في ظل هذا التردي الاقتصادي والسياسي، أحوج ما نكون إلى الضحك والابتسام وعفوية العلاقات وتلقائيتها. فاستشراء ثقافة النكد هذه تسبب الكثير من الأمراض التي أصبحت مستشرية هذه الأيام عبر ربوع أوطاننا العربية، كما تزيد الأوضاع ترديا واهتراءً. كما أننا الآن أشد ما نكون احتياجا إلى مقاومة اهتراء الأوضاع عبر نشر البهجة والابتسام والتلقائية والعفوية، بما يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة ظروف الواقع غير المواتية من جانب، وعلى مواجهة البنية الأبوية الاستبدادية من جانب آخر..

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع