حكم قطع الرحم
انتشر في مجتمعاتنا في الآونة الأخيرة مشكلةً كبيرةً، وهي مقاطعة الأقارب بعضهم البعض، فأصبح الأخ يهجر أخاه، ويقاطع الأقرباء بعضهم، بل قد تصل الأمور في بعض الأحيان إلى اعتداء الابن على أبيه، وكلّ ذلك بسبب خلافاتٍ قد تكون تافهةً في بعض الأحيان، وتستمر قطيعة الرحم بين الناس لأعوامٍ عديدةٍ.
وهم يعتقدون أنّه ذنبٌ بسيطٌ هيّنٌ، غافلين عن الخطر العظيم الذي وقعوا فيه، إذ إنّ قطيعة الرحم كبيرةٌ من الكبائر، وعد الله فاعلها باللعن والطرد من رحمته، وقد قال العلماء أنّ كلّ ذنبٍ توعّد الله تعالى فاعله بالعذاب، أو النار، أو اللعنة، أو الغضب، فهو من الكبائر.
وروى أبو بكر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل اللهُ تعالى لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يدِّخر له في الآخرةِ مثل البغيِ وقطيعةِ الرحمِ).
وروت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
(الرحمُ معلَّقةٌ بالعرشِ تقولُ: من وصلني وصله اللهُ، ومن قطعني قطعه اللهُ).
وقد حثّ الإسلام على صِلة الرحم، فكانت من أول ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس عند وصوله إلى المدينة المنورة، كما روى عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أنّ النبي عليه الصلاة والسلام جاء إلى المدينة المنورة، فاجتمع الناس حوله لاستقباله، وهم يقولون:
قَدِم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ سمعه عبد الله بن سلام وهو يقول: (يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ).
بالإضافة إلى أنّ صِلة الأرحام من أسباب التوسعة في العمر والرزق، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(من سرَّهُ أن يُبسَطَ علَيهِ في رزقِهِ، ويُنسَأَ في أثرِهِ، فليَصِلْ رحمَهُ).
فبما أنّ قطيعة الأرحام من الكبائر لا بُدّ من المبادرة إلى التسامح والعفو، فإنّ خير المتهاجرين من يبدأ بالسلام.
إنّ حكم قطيعة الرحم هو الحُرمة، إذ إنّ الإسلام اعتبرها من أعظم الكبائر التي تستوجب العقوبة يوم القيامة، وممّا يدلّ على عِظَم هذه المعصية أنّ الله تعالى قرن بينها وبين الإفساد في الأرض في القرآن الكريم، حيث قال عزّ وجلّ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ*أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).
ومن الأحاديث النبويّة التي تدلّ على حُرمة قطع الرحم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
(خلق اللهُ الخلقَ، فلمّا فرغ منه قامَتِ الرَّحِمُ، فقال: مَه، قالت: هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعةِ، فقال: ألا تَرضَينَ أن أَصِلَ من وصلَكِ، وأقطعَ مَن قطعكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ، قال: فذلك لك).
ثمّة العديد من الأسباب التي تؤدي إلى زيادة قطع الأرحام، منها:
الكِبر: فمن الناس من إذا بلغ منزلةً رفيعةً، أو مكانةً عاليةً في المجتمع، أو كان من الأثرياء، أو التجار المعروفين، ترفّع عن زيارة أقاربه وصِلَتهم؛ لأنّه يعتقد أنّه أولى بأن يُزار ويُؤتى إليه.
العتاب الشديد: حيث إنّ بعض الناس كثير العتاب والملامة، فإذا زاره أحد أقاربه من بعد غيابٍ طويلٍ، صبّ عليه وابلاً من العتاب واللوم؛ بسبب تقصيره في حقّه، ممّا يؤدي إلى انقطاع العلاقة خوفاً من سماع التقريع، واللوم، والعتاب الشديد.
الجهل: حيث إنّ عدم معرفة خطر قطيعة الرحم، وما يترتّب عليها من عقوبةٍ في الدنيا والآخرة يؤدي إلى التساهل فيها، وعدم إدراك فضل صِلة الرحم، وما يترتّب عليها من مصلحةٍ في الدنيا والآخرة يسهّل على الناس التفريط بأدائها.
ضعف التقوى: حيث إنّ ضعف التقوى وقلّة الدين يؤديان إلى إهمال أوامر الله تعالى، وعدم المبالاة في فعل ما نهى عنه، فيكون ضعيف التقوى ورقيق الدين يقطع الرحم من غير أن يبالي بالحكم الشرعيّ لذلك، ويترك صِلة الرحم مع علمه بعظيم الأجر المترتّب عليها.
قلة الاهتمام بالزائرين: فمن الناس من لا يُكرم زوّاره، ويستقبلهم بكلّ برودٍ من غير أن يُظهر الفرحة بزيارتهم، ممّا يدفعهم لعدم زيارته، وقطعهم.
الشحّ والبخل: فقد يدفع الشحّ والبخل بعض الناس الأثرياء إلى قطع أرحامهم؛ خوفاً من طلب أحد أقاربهم الاقتراض من أموالهم، أو خوفاً من إكثار الطلبات منهم.
كثرة المزاح: إذ إنّ المزاح الثقيل قد يؤثّر في الأنفس، وربما تُقال كلمةٌ على سبيل المزاح فتجرح قلوب البعض، فتُورث البغضاء، وتسبّب قطيعة الرحم.
التقارب في المساكن: فقد تحدث الخلافات بين الأقارب بسبب الأطفال والنساء، ثمّ تنتقل إلى الوالدَين فتؤدي إلى قطيعة الرحم، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (مُروا ذوي القربات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا).
نسيان دعوة بعض الأقارب في المناسبات: فمن الممكن أن ينسى صاحب المناسبة أحد أقاربه دعوته إلى مناسبته، وفي حال كان المنسيّ يغلب على تفكيره سوء الظّن، أو أن يكون ضعيف النفس، فيتسلّط عليه الشيطان، ويجعله يظنّ أن عدم دعوته لتلك المناسبة قلّة احترامٍ له، ممّا يؤدّي إلى مقاطعته لأقاربه.
كذلك وقوع بعض حالات الطلاق بين الأقارب. الحسد. التأخّر في قسمة الميراث. قلّة الصفح والتسامح بين الأقارب في حال صدور خطأ من أحدهم.