كيف نطق الإنسان
أطلق أحد خبراء علوم الأجناس واللغة، نظرية أثارت جدلا كبيرا في الأوساط العلمية، إذ ادعي أن الإنسان القديم أجاد التحدث قبل مليون سنة أي أقدم مما كان يُعتقد سابقا.
استولت فكرة عجيبة على ذهن الفرعون (بساميتك الأول مفادها لو تركنا الأطفال بدون أن نعلمهم لغتنا فهل سينطقون باللغة الأصلية للإنسان؟ وهل ستكون نفس اللغة الهيروغليفية أم ستكون متباينة؟ وإذا اختلفت فأي لغة ستكون؟
كان ذلك قبل 2600 سنة من الآن. ويذكر المؤرخ اليوناني (هيرودوت عن هذه التجربة المثيرة أن الفرعون أخذ طفلين حديثي الولادة فدفعهما إلى عائلة راع تحت رقابة مشددة، بحيث تم تغذية الطفلين بدون لفظ كلمة واحدة لهما، وكان الفرعون يتفقدهما شخصياً ليرى نتائج تجربته، ولعل هذه التجربة الألسنية الأقدم في هذا الاتجاه لمعرفة أصل اللغات بواسطة التجربة البشرية.
وبعد مرور سنتين تذكر الرواية أنهم نطقوا شيئاً يشبه لفظة (بيكوس BEKOS) وعندما سأل الفرعون الحكماء حوله عن شعبٍ ينطق هذه اللفظة ذكروا له الشعب (الفريجي PHRYGIER) الذي يعيش في آسيا الصغرى ويعرفه المؤرخون أنه كان من الشعوب الهندية الجرمانية.
وأن هذه الكلمة تعني الخبز في لغة الشعب الفريجي. فهل لغة هذا الشعب هي فعلاً أصل كل اللغات؟ لو صدق هذا لحُلت هذه المشكلة بأبسط السبل، ولكننا نعلم اليوم أن الشعب الفريجي الذي كان يعيش قبل ثلاثة آلاف سنة ليس شيئاً في عمر الزمن مع الإنسان الذي أثبتت عظامه المحفوظة في طبقات الأرض في تشاد أنه يعود إلى سبعة ملايين من السنين.
ولكن لماذا نطق الإنسان ولم تنطق الحيوانات؟ ولماذا تأخر نطق الإنسان هذا التأخر الكبير حتى فتح فمه بالحكمة؟
إن مفتاح هذا التطور يعود إلى أربعة أمور: أن يمشي منتصباً. وأن تتطور حنجرته. وأن ينمو دماغه. وأن تتشكل مراكز اللغة في الدماغ. فمع المشي المنتصب تحررت اليدان وتغير نمط التنفس وإطلاق الصوت. وحسب نظرية (روبرت بروفاين من جامعة ميريلاند (نظرية الحكي ـ المشي والتي بناها على دراسة للحيوانات التي تمشي على أربع لاحظ أن انتصاب الإنسان جعله ينطق بالعديد من الكلمات قبل أن يلتقط أنفاسه، وعندما يضحك الإنسان (ها ها ها) لا يحتاج مخطط الضحك للتنفس إلا مرة واحدة، أما القرد أو القط فيجب أن يلتقط أنفاسه مع كل صوت (ها) وهو ما يحرمه من متابعة الكلام.
إن بداية رحلة اللغة في التاريخ الإنساني تعود لنضج الدماغ فهو على الرغم من تشكيله 2% من وزن الجسم ولكنه يستهلك 20% من السكر والأكسجين.
ومع أن وزن الغوريلا أثقل بثلاث مرات من الإنسان ولكن دماغه اصغر من الإنسان بثلاث مرات. وعندما كانت الديناصورات تدب على الأرض قبل 150 مليون سنة كان وزنها 50 طنا ولكنها حكمت البسيطة بأدمغة قاصرة.
والوليد عندما يغادر الرحم لا يخرج (دماغه) مكتمل التشكل بل لابد له من متابعة رحلة نموه خارج الرحم وإلا وجب عليه البقاء ليس تسعة أشهر بل عشرين شهرا.
ومع نمو الرأس إلى هذا الحجم فإن الولادة تصبح مستحيلة ولذلك أخرجته العناية الإلهية غير كامل ليتابع كماله بعد الانفكاك عن أمه.
وحسب دراسات اللغوي (فايس بورن Weissborn) من بوتسدام فإن الطفل يتعلم أبكر بكثير مما نتصور فهو يلتقط الأصوات وهو في بطن أمه.
والمذكور يقوم حاليا بدراسة مثيرة بدأها قبل عام على 250 طفلا ورضيعا لكشف هذا السر المغيب عن بداية رحلة الأطفال بتعلم اللغة من خلال أجهزة مربوطة على رؤوسهم لتسجيل فاعليات الدماغ وإنتاج اللغة.
ونحن نعرف أن الرضيع وهو مغمض العينين يطلق الحروف الأولى (با با) وفي عمر ثمانية أشهر يفهم ستين كلمة وفي سن الحضانة يستوعب آلاف الكلمات. وقبل أن يدخل المدرسة يستوعب العالم ويتشكل ثقافياً.
ويستند (ستانلي أمبروز) في بحث نشره في مجلة (العلم) إلى أبحاث الدماغ حيث أن اللغة لها مكانان في الدماغ يربط بينهما جسر. فأما الأول فينتج اللغة وهو ملاصق لأماكن حركة اليد، وأما الفهم في الثاني فهو بجوار أماكن الحس.
ومن هنا ينطلق كورباليس في نظريته «في البدء كانت الحركة» بمعنى أن نعومة الأصابع قادت إلى نعومة الدماغ ونشوء مراكز النطق والفهم.
وعلى نفس الوتيرة قام الطبيب الألماني كارل فيرنكيه باكتشاف مراكز الفهم قريبا من مركز الحس العام في الفص الجداري من الدماغ عند أناس يميلون إلى الكلام بدون أي معنى، مما جعله يرى فيهم ظاهرة انقطاع الفهم مع بقاء النطق وهو شيء عجيب.
وبذلك نشأ ما يعرف بالمصطلح الطبي (الحبسة)، أي شلل مراكز الكلام على ثلاثة أنواع حركية بفهم المسموع وعجز النطق أو بالعكس عدم فهم شيء مما ينطق والكلام بدون اتفاق، وهي الحبسة الحسية أو اجتماع المصيبتين فلا ينطق ولا يفهم حسب امتداد منطقة الإصابة.
وبذلك أرست أبحاث الدماغ القاعدة البيولوجية لفهم آلية ولادة اللغة. وحسب الكتاب المعنون (من اليد إلى الفم ـ نشوء اللغة) يشرح كورباليس أن اللغة (السيميائية) أي لغة الإشارات والدلالة سبقت النطق.
وهذا يفسر بقاء هذه اللغة المرافقة عندنا مع كل حديث نقوم به فنهز رؤوسنا أو نلوح بأيدينا ونشير بأصابعنا وهو ما يدخل الحيوية إلى حديثنا.