كنا بنقول ده متغرب بقينا بنقول معاه فلوس
لا أحب السفر خارج مصر إلا للضرورة القصوى والضرورة القصوى الوحيدة من وجهة نظرى هى لأداء الحج أو العمرة وأى أسباب أخرى فلها بدائل، أحب السفر وأعشقه فى أى مكان داخل مصر، وأخص بالعشق الريف الذى أحلم بالإقامة به ليومين ولكنها أمنية لم تتحقق حتى الآن !
ولكنى أحترم كل من يسافر أو يحب السفر للخارج وأحترم عموماً كل من يفعل شئ لا أستطيع أنا أن أفعله، ولذلك يزداد تقديرى لكل من صنع لنفسه مكاناً فى عمل جديد أو بلد غريب أو إطار لم يكن فيه.
ولكن معظم هؤلاء الذين يتركون بلادهم ويبحثون عن فرص فى الخارج يواجهون معضلة كبيرة، لا ينتبه إليها الكثيرون وهى أنهم يعانون معاناة نفسية غاشمة ولا يشعر بهم أحد، حيث لا يرى الناس منهم إلا أنهم حصلوا على فرصة ذهبية للحصول على الذهب والياقوت والمرجان والسيارات والقصور والمكانة الاجتماعية المرموقة !
الأسوء من المعاناة هو عدم قدرتهم على التعبير عنها، فالجميع يظنهم فى نعيم مقيم، فأين المعاناة ؟، ويرفض الجميع حتى سماع شكواهم.
الكثيرون من أصدقاءنا سافروا للعمل بالخارج وأنا أزعم أن عددهم يؤهلنى لإصدار حكم على الأمر، بادئ ذى بدئ معظمهم متوترون بشكل زائد جداً ويسيطر عليهم التيه، بعضهم متزوج من أخرى غير زوجته التى يراها لمدة شهر كل عام، دون علم زوجته مما يمثل ضغطاً إضافياً على هذا الشخص، بعضهم ينشغل ليلاً ونهاراً بالاتصال بأصدقائه القدامى أو المقربين من أهله لقتل الوقت وليس لقضائه، بعضهم تزوج أمريكية أو أوروبية ولم يفكر فى الإنجاب لأنه يفضل أن من تربى أبنائه تكون أم مصرية أو عربية، بعضهم لم يتزوج ويعيش مستقيماً بصعوبة، وبعضهم لم يتزوج ويقضى أوقاته مع العاهرات !
فى الغالب لا يكونون صداقات قوية مع زملاء العمل فتسود حياتهم العلاقات السطحية جداً، فليس هناك من يلجأون إليه فى الأزمات وكلما حاولوا الفضفضة أو الحديث، لا يقابلهم إلا كل استهزاء بمعاناتهم بحكم أنهم يحصلون على مقدار كبير من المال يستحيل فى وجوده حدوث مشاكل من وجهة نظرهم.
معظمهم يتركون آبائهم وأمهاتهم فى سنواتهم الأخيرة، فيفقدون الشعور بالراحة الذى لن يشعرون به إلا من خلال هؤلاء الآباء والأمهات، كما قد تفوتهم فرصة توديع آبائهم فيموت الأب أو تموت الأم ويكون آخر لقاء جمعهم كان قبل عام أو عامين أو أكثر !
كما أن فرصة جمع حسنات من بر الوالدين فى سنواتهم الأخيرة لا تسعفهم الظروف لنيلها، فتفوتهم هى الأخرى !
الكثيرون منهم يعيش منفرداً أو مع جماعة غريبة عنه؛ فلو عاش منفرداً فهى مأساة أن يستيقظ بمفرده ويتناول إفطاره بمفرده ويذهب إلى عمله بمفرده ويعود إلى البيت بمفرده ويتناول غدائه بمفرده ويقضى بقية اليوم بمفرده ثم يتناول عشائه بمفرده ثم يسهر لمشاهدة التلفاز أو متابعة شبكات التواصل الاجتماعى المملة بمفرده ثم ينام بمفرده ويشعر بالضيق بمفرده ويمرض بمفرده ويقضى الأعياد بمفرده ثم عليه أن يظهر للناس سعيداً وثرياً ومنزهاً عن المشكلات.
وحتى المجموعة الأخرى التى تعيش مع غرباء، فهى بدورها ترى معاناة من نوع آخر وليست هينة لو نظرنا إلى تفاصيلها؛ أن يعيش المرء مع غرباء، حتى ولو تأقلموا بعد فترة قد تطول أو تقصر !
قد يكون الوضع أفضل بكثير فى حال من يكون معه زوجته وأبنائه وهم نسبة قليلة مقارنة بالمجموع.
لاااابد من محاولة زيارة الأصدقاء القدامى إن وجدوا وزيارة الأم والأب إن وجدوا، لأنها ضرورة للاستقرار النفسى والقدرة على المواصلة، أو استضافتهم إن أمكن ذلك، فقد يكون من الممكن التنازل عن الجيران والأقارب وحتى الأخوة أما الأم والأب والأصدقاء القدامى، فهو خطأ كبير التنازل عنهم.
بعضهم قضى عام واثنين وثلاثة وعشرة وعشرين وثلاثين ولم يعد للقاء أصدقائه أو حتى إستعادة الذكريات فى بيت أهله الذى تربى فيه ونام فيه سنوات واستخدم أجهزته الكهربائية ووقف فى نوافذه وشاهد شوارعه واستخدم دورة مياهه، وصعد سلمه أو فى مصعده وتحدث إلى جيرانه !
إستعادة الذكريات تحرك فى النفس أموراً لا تحركها سواها، وتفعل بالإنسان ما لا تفعله أى محاولات أخرى لتحريك الرواسب والرواكد والشعور بالثبات على أرض صلبة ولو لأيام قبل العودة للتيه !
وإن لم تكن الصداقات القديمة مستمرة أو انقطعت لأى أسباب، فعليهم محاولة إسترجاعها، فالأمر يستحق !
أو حتى على الأقل إقامة علاقات صداقة جديدة وإن بدى الأمر صعباً، لكن التخلى عن الجميع قد يأخذ صاحبه إلى ما لا يفضل الخوض فى تفاصيله، إلا أنه لا يحبذ ولا يمكن تشجيعه.
الكثيرون منهم لجأوا أو يلجأون أحياناً للعلاج النفسى، ولكن العلاج النفسى بمفرده حتى مع تناول عقاقير طبية أو حضور جلسات نفسية، مع استمرار الجو العام كما هو، فلن يجدى نفعاً يذكر.
فالعلاج النفسى لا يغنى عن الآباء والأصدقاء والزواج، ولكن الآباء والأصدقاء والزواج قد يغنون عن العلاج النفسى بجدارة.
حتى وإن كانت العلاقات غير مستقرة بين الأصدقاء أو تشوبها الغيرة أو الكذب أو غيرها وإن كان الزواج يملأه الضجيج والعثرات وإن كانت العلاقة بالأب والأم ليست كما يتمنى الشخص، إلا أن وجود هذه الأعمدة من الضرورات !
منذ عشرات السنين كنا نسمى هؤلاء ( ده متغرب ) أو يقولوا ( ده فى غربة ) أما اليوم وقد أصبح الغل والغيرة والاستهزاء بمعاناة الغير هم أسهل أدوات التسلية فأصبحنا نسميهم ( ده مسافر برا، يعنى معاه فلوس ) !!!
ولكن تعبيراتنا تغيرت، كما تغيرنا !
هذا المقال لا يقدم حلولاً جذرية للمغتربين فى أنحاء العالم، وكل منهم له قصته وحيثياتها وتفصيلاتها التى قد لا يعلم أحد بها سوى الله، ولكنه محاولة منى لإشعار هؤلاء أن هناك من يشعر بهم أو ينصت إلى شكواهم التى لا يتفوهون بها !
spywork