لحظة حب مقال للدكتور مصطفى محمود
لولا تجلى ربنا على مخلوقاته لما كان هناك شيء يستحق الحب في الدنيا على الإطلاق .. لا وجه ولا صوت ولا صورة ولا مذاق ولا سلوك ولا فعل ولا كلمـة ولا نغمة.
فالله هو نور السموات والأرض .. فهـو النور الذي نراه في الوجـوه فتحبها ، وهو نور العقول ونور الضمائر ونور البصائر وهو الحق وهو العدل .. فهو ما نحب في كل أفـعـالنا من حق وعدل .. وهـو الجمال الذي يسبي في كل طلعة جميلة وهو البهاء الذي يخطف القلوب في كل حضرة بهية .. فهو سبحانه ما نحب في كل من نحب وهو المعبود في كل ما تعبد بلا شريك ولا ند فأينما ولينا وجوهنا فليس ثمة إلا وجهه.
فإذا انخطف قلبك لرؤية جمـال فما خطف قلبك إلا هو .. وإذا اتخطف سمعك لكلمة فما خطفها إلا الحق الذي تجلى فيها وإذا ثبت لحضرة فلما استشعرت من وجود الله فيها.
فهو وحده الذي يجعل القيمة لأي قيمة .. ومن وجهه تفيض الكمالات على كل ذي كمال
وما الوجه إلا واحدغير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا
يقول الصوفي لربه :
وأثنينا على أوصاف ليلى ومعنى غير حسنك ما عنينا
ولذا ينظر الصوفي حوله دائما في دهشة لأنه يرى وجه ربه في كل شيء ، فالجمـال المجتمع في الذات الإلهية يراه مفصلا في الأكوان .. والتعدد والتكثر حوله ما هو إلا إشهار وإعلان وتفصيل لما أجمل من أسرار في ذلك الواحد فما يرى إلا الواحـد ، وإنما تعـددت المرايا فتعددت المشاهد وتعددت المناظر وتعددت الزوايا ..
وهو بحكم البشرية يرتبط بالحدود والمعالم ويتوجه إلى الجهات ويعانق المحـدود ولا يستطيع أن يتعامل إلا مع لحظات متفرقة ولكن الروح الطليقة في داخله ، تتخطى هذا الستار المزركش ذا الرقع المتعددة الذي اسـمـه الدنيا ، وتتخطى حواجز اللحظات لتلامس الأبدية وتعانق اللامحدود في شغف دائم ودهشة متجددة وما لحظة الحب المتوهجة إلا عناق ذلك الواحد ولذا كان الصوفى دائما عاشقا ولهانا مهيما متيما نصف حاضر نصف غائب ، يطالع البهاء الإلهي في كل لفتة ويصغى مشبوب الفؤاد إلى كل همسة لأنه يرى الله في عين كل ناظر ويسمعه على لسان كل متكلم.
ثم إن الصمت عنده مكالمة .. والهدوء مـسـامـرة .. والسكينة مؤانسة والوحدة معية .. والانفراد صحبة .. والخلوة نجوى … وهو لهذا لا يمل ولا يضجر ولا يستوحش ، وهو عاشق ، ولكن كل ما يهـوى من أسماء إنما هي رموز للواحد .. وأثـواب الفتنة والجمال التي تتألق بها الجميلات في ناظريه إنما هي تجليات خلعها الواحد على هذه وتلك فمضت تختال بها.
وإذا قلت زينبا أو ثريا أو سليمى فاحكموا
أنه رمز بدیع حسن تحته ثوب رفيع معلم
وأنا الثوب على لابسه والذي يلبسه لا يعلم
ولهذا يقول للائمين في الهوى :
وقالوا شـربت الإثـم كـلا وإنمـا
شربت التي في تركها عندي الإثم
هنيئا لأهل الدير كم سـكروا بها
وما شربوا منها ولكنهـم هـمـوا
وعندي منها نشـوة قبـل نشـأتي
معی أبـدأ تبقى وإن بلى العظم
ذلك هو المحبوب الواحد والوحيد .. الله جل جلاله.
ولا دوام لحب إلا الحب له والحب فيه .
وما الدنيا كلها بعد ذلك وما شخوصهـا ومـا رجالهـا وما نساؤها إلا مجرد مناسبات تهيج الذكرى إلى ذلك المحبوب وتردنا إليه وترجعنا إلى ساحته وتشوقنا إلى أوصافه .
والدنيا هي أرض الغربة والاغتراب والبعد والحجاب والغفلة والأسباب والتيه والضباب .. ولا عبرة فيها إلا بلحظة الصحو والفواق والشعور بلوعة الفراق.
والحنين إلى اللقيا .. وإلى بلد المحبوب .. وإلى وطننا الأول عنـده الذي منه جئنا وإليـه، ثم ما يثمر هذا الحنين من تشمير للسـواعد وجد في العمل للتقرب والتحبب إلى هذا المحبوب الجليل لتكون ساعة اللقيا ساعة رضا لا ساعة خزى .
فإذا لم تثمر حياتك بمتاعبها وآلامها إلا هذه الثمرة فحسبك بها كسبا .. وقد عشت وأدركت وفهمت ، وإذا لم تثمر هذه المعرفة فما عشت وما أدركت وما كانت حياتك إلا عبثا وهي وعدمها سواء وإن امتلكت ذهب الأرض وعمـرت ألف عام فأنت والدابة سـواء .. بل الدابة أفضل لأنها تعبد الله على طريقتها وتعرفه على سليقتها وتحبه على فطرتها فما بال سيد الكائنات الذي أعده الله ليعرف فلم يعرف، وزوده ليدرك فلم يدرك ، واصطفاه لحبه فتولى عنه ولم يعش إلا لحب الخسائس والتهالك على سقط المتاع .
فإذا أضناك هوى أو أعماك طموح أو أضلتك فتنة فانظر تحت قدميك إلى التـراب الذي يطؤه حـذاؤك ، وسل نفسك كم من رؤوس امثلات بالفتن والأطماع والأهواء ثم غيبها ذلك التراب .. ذلك التراب عينه الذي تحت حذائك، وإنك لتوشك أن تكون ترابا أنت الآخر يطؤه ناس آخرون .. وإنما هي برهة والتـفاتة ثم ينتهي كل شيء فلا تضيع هذه البرهة الخاطفة في خسائس الأمور .. واخـتر لنفسك المحبوب الذي يليق بكمـالك المحبوب الذي لا يضيع عنده معروف ولا تضيع مودة .. وذلك ربك وخالقك.
ولئن ضيعت ربك فابك ما شاء لك البكاء فلقد ضيعت كل شئ.
ولا يغرك علمك… فقد أضل الله قوماً على علم وأهلك أقواماً كانوا مستبصرين .. وعثرة العالم أسوأ بما لا يقاس من عثرة الجاهل .
فلئن كنت تطمع في نجاة فتوسل إلى فضله وليس إلى علمك ولُذ بجنـابه ولا تعتـز بجنابك ، واسـجـد لتدخل من الباب الضيق والزم العبودية لتكون أهلا لعطاء الربوبية .
وإذا راودتك نفسـك الأمارة وسول لك شيطانك بأنك على شيء فانظر مرة أخرى إلى التراب الذي يطؤه حذاؤك …فذلك التـراب هو الملوك الذين غبروا قبلك وعـروشـهم وأمجـادهم ومواكبهم وقد انطوى فيه التصفيق والهتاف ومـاتت الضجة وسكتت الأبواق ودفنت الرايات وعاد كل شيء ترابا .
وموعدك مع هذا التراب قريب.