مقالات نورا عبد الفتاح

الصعيدى يغلب الأوروبية





كنت أدرس في كلية الألسن جامعة عين شمس في الفرقة الثالثة؛ هنا كان يعلمنا أستاذنا، أحد هؤلاء المصلحون الذين يقضون ساعات على مدار الأيام يقوّمون في سلوكياتنا في أمور خارجة عن الدراسة مثل الالتزام الشديد في المواعيد، ضرورة زيارة معرض الكتاب كل عام، خفض أصواتنا ورفعها عند الإجابة فقط، إجبارنا على إحترام محاضراتنا وأساتذتنا فهو لا يسمح لأي طالب أو طالبة بالدخول بعد دخوله ولو بثانية واحدة.

لا يكف عن النصيحة المباشرة والغير مباشرة لبعض الطالبات اللاتي تبالغن في وضع مستحضرات التجميل أو يتحررن بشكل زائد في لباسهن، لا يكف عن مطالبتنا بعدم الكتابة في الكتاب بقلم جاف أو ثني أى ورقة منه، ويحرص كل الحرص على أن نقوم جميعا بتجليد الكتاب وكان يتشدد في أمور على هذا النحو.



ذات يوم قالت له إحدى الطالبات الغير مهذبات “أنا حرة فى كتابي، أنا دفعت فلوسه ” فأخرج من جيبه ثمن الكتاب وأعطاها (فلوسها) وأخذ كتابه.

كان دكتور فلان من أقصى الصعيد بشرته سمراء يرتدي ملابس رسمية طوال الوقت أحيانا ألوانها غريبة بعض الشيء ولكن( عليه نطق ألماني) يشيب له الوليد في بطن امه وأبنائه جميعهم يدرسون فى ألمانيا أو فى إحدى المدارس الألمانية فى مصر فترة تواجدهم فى مصر.

كان محترفٱ ومميزٱ بشدة .

كان يضع لنا في الجدول محاضرة له وحده يوم إجازتنا تستغرق النهار، وكنت آتي من المعادي حتى العباسية آخر جامعة عين شمس بلا ذرة من الضيق لأني كنت أعشق محاضراته وأعشق حربه الدائمة ضد الخطأ، ودفاعه المستميت عن المبادئ السليمة دون ملل أو كلل، لم أجد أحدٱ يحبه غيري، كان الجميع يسخر منه ولا يصدق أحدٱ أن هذا النموذج مثاليٱ ومناسب لأستاذ الجامعة بمبادئه، التى كانت تخنقهم بدورها وتصيبهم بشئ من الضغط النفسى وتأتى بهم يوم الإجازة وتجبرهم على تجليد الكتب والحضور مبكرٱ قبل دخوله، ولكني لم أُخفِ يومٱ أنني حتى ولو لم يعجبني تدقيقه الشديد إلا أنني أحترم إلتزامه بالإصلاح على طول الخط رغمٱ عنى.

كان من بين أساتذتنا أيضا أستاذة ألمانية الجنسية؛ بفكر الشعب الاوروبي الذي يتغاضى عن كل شيء ويتنازل طالما الأمر لا يمسه بسوء بشكل مباشر، لا يعنيها من يدخل متأخرا أو ما يحدث في كتابها مادامت تسلمت ثمنه، جميلة ، أنيقة، ممشوقة القوام، تأتي وتذهب فى مواعيد محاضراتها فقط، لا تطالبنا بأكثر من الحد الادنى من واجباتنا، فنحن بالنسبة لها طلبة وطالبات وهي أستاذة في الجامعة وانتهى الامر عند هذه النقطة.

أما دكتور فلان فلم يكن الأمر بالنسبه له كذلك على الإطلاق، بل كان هو يلزم نفسه بواجبات هى فى الحقيقة ليست من واجباته مثل القلق على تربية كل الأجيال التى درس لها، كما كان يلزمنا بواجبات تتخطى واجباتنا مثل الحضور يوم الإجازة وتجليد الكتاب وزيارة معرض الكتاب كل عام.

هل اتضحت لك الصوره الان ؟

هل اتضح لك الفرق الذى أبغي توضيحه بين الأستاذ المصلح الذي على عيني أني لا أذكر اسمه وأقول عنه دكتور فلان وبين الأستاذة الأخرى التي للاسف نسيت اسمها مع هذه السنوات، وحتى لو كنت تذكرت اسمها فبالطبع لن أذكره فى مقال.

سأوضح لك بمزيد من التفصيل بمثال آخر.

كنت دائما أنتظر صديقاتي أثناء الذهاب إلى الكلية، عند محطه مترو الأنفاق (منشية الصدر ) ولكن في أيام محاضرات هذا الأستاذ كنت لا أنتظر أحدا وأذهب حتى أدخل قبل وصوله، خوفٱ من منعي من الدخول.

فى إحدى المرات التى لا أذكر تفاصيلها انتظرت صديقاتى، وصلنا فإذا به قد دخل وأغلق الباب، والويل لنا !

نظر إلىّ كل المنتظرين في الخارج قالوا لي (جربي كده تدخلي انتِ الأول يمكن يرضى) وذلك بالطبع على خلفية دفاعى الدائم عنه وكأنهم يقولون لى : ( مش هو ده اللى بتدافعى عنه لوحدك، اتفضلى بقى اتصرفى وورينا شطارتك ، ورينا يستاهل دفاعك ولا خسارة فيه ! ).

فطرقت الباب وفتحت قبل أن يجيب أو يفتح وأنا أمدّ يدي وكأنني أستأذنه وأتوسل إليه، وتحدث المعجزه التي لم نصدقها جميعٱ؛ وافق على دخولي ومعى كل زملائي الذين كانوا فى الخارج.

كان حدثٱ جللٱ جعل الكثيرون من زملائي يستوقفوننى في الكلية في عده أوقات يسألون( هو انتِ اللي دكتور فلان دخلك ) ؟

لقد كان يعلم هذا الاستاذ أنني وعلى مدار 5 فصول دراسيه في ثلاث سنوات متتالية لم أتأخر يومٱ، فلماذا يرفض عذرى الأول والأخير ؟
وهو يعلم أننى أعلم جيدٱ أننى لو كررت التأخير ثانية فلن يسمح لى بالدخول.

فهو إنسان ليس متشددٱ، غبيٱ أو أعمى البصيرة كما كان يبدو لبعض السطحيين.

في نفس العام وفي الفرقه الثالثه حدثت لي وعكه صحية شديدة قمت على إثرها بإجراء جراحتين في وقتين متقاربين، وحتى انتهت هذه الفترة كنت أذهب إلى الكلية وبالتزام شديد ، حتى تعبت ذات يوم بشدة فطلبت من صديقتي الجالسة بجواري أن تخبره بأنني أريد مغادرة المحاضرة، ولكني عندما هممت بالقيام وجدت نفسي لا أستطيع الوقوف فقام هو بإيقاف المحاضرة وطلب من زملائي الشباب أن يأتي أحدهم لحملي ورشح أكثرهم تدينٱ إمعانٱ فى الحرص.

وطلب منهم الذهاب بى إلى عيادة الكلية وخرج معنا إلى الخارج وأدخلنا الى غرفة مكتبه إلى أن يصل المصعد وأُلغيت المحاضرة وانتهت على هذا الحال، وبعدها أخذني أصدقائي الى المستشفى التي كان يعمل بها والدي، والله وحده الأعلم ما معنى ضياع محاضرة عند هذا الأستاذ.

في نفس هذه الأثناء كنا في إحدى محاضرات الأستاذة الألمانية الجميلة بأناقتها وقوامها وتغاضيها الدائم عنا جميعٱ.

كنا نجيب كلٱ حسب دوره في الجلوس، عندما جاء دوري لم أكن على أي قدر من التركيز فلم أستطع الإجابة، سألتني أن أذكر لها أين السؤال الذي هو دوره ؟

وللحق لم أكن أدري مكانه أيضٱ من الأساس من شدة الإعياء فقالت لها إحدى صديقاتي إنها مريضة، فطلبت مني مغادرة المحاضرة وطُـردت من المحاضرة لأول مرة فى حياتى، لأنني لم أُجب لها سؤالا مرة واحدة.

فهي بأناقتها وأوروبيتها لم تعذرنى لمرة واحدة، أو تذكر أننى فى العادة أجيب وأتفاعل معها بشدة، وحكمت على من خلال موقف أوحد.

اما أستاذ الاساتذة المصلح، ذو المبادئ المستعصية على الخطأ فلقد عذرنى للمرة الأولى والأخيرةحينما تأخرت، لأنه يعلم جيدٱ أننى دائمٱ ما كنت ملتزمة، فلربما حدث ظرف طارئ لمرة فلا داعي للتشدد ولا ضرر من تقبل العذر، وتركنى أدخل وهو يعلم أننى على دراية تامة أنني لو كررتها فلن يُسمح لى بالدخول.

وكما خرج أصدقائي يسألون متعجبون في المرة السابقة (هو انتِ اللي دكتور فلان دخلك ؟ ) أصبح السؤال هذه المرة ( هي إزاي طلعتك بره مع انها عارفة انك شاطرة ) ؟

ولكني لم أتعجب لأنني كنت أعلم الفرق.

هل علمت الفرق يا صديقى ؟

ويظل المصلح منبوذٱ أينما حلّ ونزل ، دائمٱ حديثه ثقيل وظله ثقيل واسمه ثقيل وتواجده ثقيل، بينما المتنازل المتغاضِ المفرّط هو المحبوب اللطيف خفيف الظل.

أثبتت التجارب كلها بكل الادلة أن صاحب المبادئ المصلح هو من تعتمد عليه، تلجأ اليه بعد الله، تسأله النصيحة، تطلب منه المساعدة، ينشغل بصلاح العالم بينما ينشغل المتغاضِ باصلاح العشرة سنتيمترات المحيطة به إن أمكن، مخافة أن يصيبه مكروه ليس حتى بغرض الإصلاح عمومٱ !

فأما المتنازل فلا يُلجا إليه ولا يُسأل المساعدة ولا يكون عجبٱ من تفريطه أو سوء فهمه وتقديره مثلما فعلت الأوروبية !

صديقى العزيز:
هل أنت أقرب إلى شخصية الصعيدى أم إلى شخصية الأوروبية ؟

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع