علم الاجتماع فى المهد
إن الإلمام بالفكر الاجتماعي المعاصر والحديث ضرورة ليس لدارسي العلوم الاجتماعية وحدهم وإنما لكل مهتم بقضايا المجتمع و تحولاته ومشاكله.
وتزداد هذه الضرورة أهمية مع ازدياد التواصل الاجتماعي والثقافي بين مختلف المجتمعات في عالم أصبح يتقارب باستمرار حتى شاع وصفه بالقرية.
فالتعرف على الفكر الاجتماعي الأوربي والأمريكي المعاصر والحديث يساعد على تعرف أكثر عمقاً على تلك المجتمعات ويسهّل عملية التواصل والحوار معها.
من أوائل من تحدث عن علم الاجتماع وفكر فيه وكتب عنه أبو نصر محمد الفارابي، الذي ولد في كازاخستان ودرس في بغداد وأقام في حلب عند سيف الدولة الحمداني وتوفي في دمشق.. ولقب «بالمعلم الثاني» بعد «أرسطو» لمكانته العلمية التي حازها في زمنه، وإمكاناته الفائقة في علوم الفكر المجتمعي، وأهم كتبه في هذا المجال هو كتابه الأبرز: «آراء أهل المدينة الفاضلة».
الذي وصف فيه المدينة الفاضلة بأنها تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على استبقاء منظومة الحياة وحفظها.
ثانيهم (أبو علي أحمد بن مسكويه) الذى ولد في مدينة «ري» جنوب طهران في فارس وهي المدينة التي ينسب إليها الرازي، درس التاريخ والفلسفة والمنطق والطب، وكان أديباً حكيماً ذا نزعة أخلاقية عالية، ومن أشهر مؤلفاته كتاب: «تجارب الأمم» الذي رصد فيه الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الدولة العباسية وكتاب: «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» أما كتابه: «الحكمة الخالدة» فقد نقل فيه حِكَم الفرس والهند والعرب الروم.
ثالثهم عبدالرحمن بن خلدون الذي ولد في تونس وبدأ العمل السياسي في سن التاسعة عشرة من عمره وحينما بلغ الخامسة والأربعين قرر الانقطاع للبحث والتأليف.
أنجز خلالها تاريخه الذي أسماه «العِبَر» الذي منه المقدمة الشهيرة ثم انتقل إلى مصر حيث بقي فيها حتى مات.
هو أعمق وأوسع من كتب عن علم الاجتماع دون أن يسميه بذلك الاسم ولكنه يعد بحق أول منشئ لذلك العلم رغم أن علماء الغرب لم يكتشفوا مقدمة ابن خلدون إلا متأخرين إلا أنهم يضعونه في مصاف الرواد المؤسسين لعلم الاجتماع، فقد ترك كتاباً ضخماً أسماه: (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) أبرز في مقدمته طبيعة المجتمعات وتطورها من حال إلى حال.
ويُعَرِّف ابن خلدون «علم الاجتماع» الذي أسماه «علم العمران» بأنه: (ما يَعْرِض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والإيناس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض.
وما ينشأ من ذلك من المُلك والدول ومراتبها وما يقوم به البشر من أعمال الكسب والمعاش والعلوم والصنائع)
ثم بعد ذلك بخمسة قرون أطلق «أوجست كونت مقالته الأولى عام (1822م) وأسماها في البداية: «الفيزياء الاجتماعية»وبعد تعمقه في الموضوع ظهر بالمسمى الجديد الذي اعتمد كاسم للعلم وهو: (Sociology).
وإذا كان علماء الاجتماع يقسمون علم الاجتماع إلى مرحلتين هما: الفكر الاجتماعي، وعلم الاجتماع.. فإن ابن خلدون يعتبر همزة الوصل الأهم على الإطلاق بين هاتين المرحلتين.
قطع علم الاجتماع شوطًا طويلاً، حتى بلغ مرحلة الرشد والاكتمال، فقد نشأ في أحضان الفلسفة، وقد نمت كثير من مسائل علم الاجتماع وهو جزء منها، وما إن برزت العلوم الأخرى حتى حاول علماؤها أن يلحقوا مسائل الاجتماع بمسائلها كما حدث من جانب بعض مفكري الطبيعة، والبيولوجيا، والتاريخ، وعلم النفس وغيرها، ولم يرض علم الاجتماع بتلك التبعية، وحاول علماؤه والمفكرون في موضوعاته أن يخلصوا من هذه التبعية.