مقالات نورا عبد الفتاح

الغابة الكبيرة



يقولون الكلام الطيب، يبتسمون لمن يعرفون ولمن لا يعرفون، الرجال الذين يحترمون كون المرأة إنسان عاقل، الملتزمون بالحق مهما كلفهم الأمر، العاشقون لأوطانهم حتى وإن كانت أفقر الأوطان، المحافظون على أوقاتهم، الذين يدفعون الناس ليكونوا أفضل، المنصتون للمهموم، من يحسنون الظن مهما بدى من سوء، المجاملون، الذين يغضون أبصارهم، الذين يربأون بأنفسهم عن الإغواءات، الرجال الذين يظهرون إحترامٱ لزوجاتهم فى العلن والنساء اللاتى يطعن أزواجهن ويفخرن بذلك، البيت الذى لا يأكل أفراده إلا إذا اجتمعوا على المائدة وحضر الجميع حتى وإن تضوروا جوعٱ، جابروا الخواطر، الملتزمون بخفض أصواتهم فى حضور كبار السن والبارون بآبائهم، المضحون فى كل مكان، المتغافلون عن الزلات، عديمو الشكوى، المفسحون فى المجالس، الزاهدون، المؤدون الأمانات وأمثالهم.

ربما يراهم البعض حمقى وجهلاء وضعاف، وأن البراعة والذكاء والحنكة تكمن فى المرونة المطلقة المفعمة بالرعونة والخارجة عن أى سيطرة وأى مبادئ تقيدها.

وأن الإلتزام خنقة، وأن إظهار العواطف خيابة، وأن التواضع هوان، والصدق يقود للمشاكل ويعقد السهل ويبعد القريب، الذى بكذبة واحدة يصبح فى قبضة يدك.

وأن مساعدة الغير تعطيل للمصالح، وأن راحة الآخرين إزعاج لهم، ومجاملة الآخرين مجهود مضنِ.

يسخرون من الأنقياء الأصفياء، الذين ينقذون الكرة الأرضية من أن يخسفها الله وينهى الحياة عليها، بينما هم الدعائم لكل ما هو جميل بيننا.

وعلى الرغم من علم الجميع التام بأهمية وجود هؤلاء فى الكون، إلا أن السخرية منهم ومن قواعدهم لا ولن تتوقف.

أما الذين يدعون النبوغ والنباهة والخبرة والدهاء ويسعون فى الأرض باستغلال الناس وقسوة القلب والأنانية; إنما يسحبون العالم إلى الهاوية وبسرعة،ويفخرون بنجابتهم وحدة عقلهم المزعومة.

ولا يقف أذاهم عند الإساءة ونشر الشر وإنما يهاجمون أصحاب المعسكر المسالم هجومٱ مباشرٱ فى معارك صريحة، وكأن المسالمون هم الشر فى هذا العالم وهم المصلحون، ومن واجبهم تعديل المسارات البائسة للمسالمين، لأن وجودهم يزعج الكثيرون من أفراد المعسكر الأقوى؛ نعم هم الأقوى بكل تأكيد، أقوياء بحماقتهم وغلهم، أقوياء بتهورهم وطيشهم، أقوياء بأثرتهم وسهوهم، وأقوياء بضعف الطيبين.

لو قل هؤلاء الطيبون ثم انقرضوا، سنصبح فى غابة تضم حيوانات كاسرة فقط.

ومهما تحدثنا عن مجد وتطور ونهضة؛ فلن يكون هناك أى مجد أو تطور بدون أمثال هؤلاء الذين نرتكز عليهم، حتى وإن إرتكزنا عليهم حتى كسرناهم، ولن يكون إستمرار لحياتنا إلا بهم، ولن يمتص الشرور والأذى إلا هم.

مهما تحقق فى هذا العالم التعس كل صور التقدم والتحضر والنمو، سيظل المتقدمون والمتحضرون فى أمس الحاجة إلى دعائم يستندون عليها، وهؤلاء المفعمون بالإحساس والإنسانية هم الدعائم والسند.
وسيظل الأقوياء فى حاجة إلى من نسميهم الضعفاء أو البلهاء أو السذج، حتى وإن بدى العكس.

وكما إعتدنا على قلب الأمور وخلل المعايير وتزييف الحقائق وتكذيب الأكيد، إعتدنا على تصديق أن الأنانى والأرعن أهم وأقوى من الإنسان النقى، حتى أصبحنا نعيش فيما يشبه غابة كبيرة بحجم العالم.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع