ليتهم يتعلمون من حرّاس الملهى
بحكم سكنى فى حى الهرم؛ أمرّ طوال الوقت أمام الملاهى الليلية التى تملأ الطريق بشكل كبير نسبياً وملحوظ، ودائماً ما يلفت نظرى ويثير التساؤلات داخلى؛ هيئة حراس المكان من ذوى الأجسام الضخمة والمناكب العريضة والقامات الطويلة والملابس الفخمة والتى تكون دائماً سوداء وفى قمة الأناقة، وملتفتين كل الإلتفات إلى قصات شعورهم وأحذيتهم وساعات اليد وكل التفاصيل التى تخص هيئتهم، ويقفون وقفة عسكرى متميز أو ضابط متفوق بالجيش، تبدو عليهم الجدية الشديدة والتركيز الشديد وفى عيونهم منتهى الإنتباه وأقصى درجات التركيز، وكأنهم يؤمّنون مؤتمر علمى يضم صفوة علماء الذرة فى العالم، أو أكثر الخبراء الإقتصاديين تميزاً أو أقوى علماء تخصص هام وحيوى فى أحد أهم العلوم فى الدنيا.
ودائماً ما أتسائل؛ ( هما عاملين كدا ليه، وليه عايشين فى دور إنهم بيعملوا خدمة جليلة وخطيرة ؟ )
وكنت أظن أنهم يعلمون تمام العلم أن ما يقومون به ( ولا مهمة جليلة ولا بتاع ) ولكنهم بيحاولوا ( يسبكوا الدور ) حتى يصدق من يراهم على هذه الهيئة أن هذا المكان مبذول فيه من الجهد والإلتزام الكثير والكثير، فلا يحقّر منه أحداً أو يهينه ولو بنظرة.
والمفاجأة هى أنهم فى الغالب يصدقون تمام التصديق أن ما يفعلونه خدمة جليلة بالفعل، وأن وظيفتهم وظيفة مرموقة وجادة ومفعمة بالأخطار والتعقيد، ولا يستطيع كل من هب ودب القيام بها، فتأمين ملهى ليلى أمر غاية فى الجدية ويتطلب العبوس والوقفة المتحفزة والنظرات المخيفة والتهامس والتناجى بصوت خفيض، ويحتاج شروط جسمانية ونفسية خاصة جداً ومتفردة، هذا ما يظنونه بل ويصدقونه.
كما أن لابد لهم أن يفترشوا الرصيف وينظروا لكل من يمر من بينهم على أنه متطرف وإرهابى يهدف إلى الإقتراب من حصنهم بقصد تفجير ملهاهم الليلى بمحتوياته من أفراد وأدوات ومشروبات.
يقول علماء النفس أن العقل الباطن لا يأخذ أى أمر بتبسيط أو دعابة، إنما دائماً ما يأخذ كل ما نقوله بجدية مطلقة ويصدقها تماماً فهو لا يكذب العقل الواعى أبداً، فهؤلاء الشباب الضخم الذى يحمى ويحرس الملهى الليلى الذى يلهو الناس داخله ويقضون وقتاً فى التسلية والخمور والرقص والسهر، مصدقون تمام التصديق أنهم يفعلون مهمة شاقة ويقومون بعمل هام، إنهم بالفعل مقتنعون بجدوى وظيفتهم وخطورة وضعهم وأهمية دورهم ودور أجسامهم الكبيرة فى أداء هذا الدور الإجتماعى المرموق.
كما أن عقولهم الباطنة بما أنها تعمل جاهدة على ما يغذونها به من معتقدات، فإنها ستجعل الواحد منهم يجتهد فى عمله ويحبه ويكدّ فيه بلا ملل أو تقاعس، ويترقى فيه فعامل النظافة قد يترقى ليصبح سائقاً والسائق قد يترقى ليصبح حارس للمرقص، والحارس يترقى ويصبح كبير الحراس وكبير الحراس يترقى ويصبح مديراً للمكان، وهكذا حتى يصبح عامل النظافة مديراً للمكان فى يوم من الأيام، لماذا لا يترقى وقد أحب عمله وأداه بتفانِ وإتقان.
فمن يحب عمله ويعطيه الجد والاجتهاد والسهر والغالى والنفيس والصحة، سيترقى ويتقدم وينجز ويحقق ما يفوق خياله أياً كانت وظيفته، وهؤلاء الشباب ( الغلبان ) سيرتقون ( فى مكانهم) المكان الذى وضعوا أنفسهم فيه وإختاروه لمستقبلهم، لأن عقولهم مصدقة وقانعة وسعيدة بما هم فيه، وستظل سعيدة ما دامت داخل الدائرة التى دخلوها وإستراحوا لها، وليت هذه الحيوية والمثابرة والصبر والجد عند كلاً منا فى مكانه وفى عمله، بدلاً من أن تكون قاصرة على هؤلاء الشباب المجتهد فى عمله، الآخذ على عاتقه مسئولية عمله وتملأه الحوافز والدوافع للإستمرار، بينما نرى مهندسون ومدرسون وعمال وأطباء وطلبة وموظفون، يجدون عدم وجود أى جدوى من٠ عملهم ولا يرون فى طريقهم إلا أنهم لم يحققوا شيئاً وأن الهدف شديد البعد وأن الصعاب تملأ الأفق والمحبطات تغلق الطرق، ليتهم يتعلمون من حراس الملهى، أن من جد وجد ومن زرع حصد.