سيكولوجيا التشبح
مقال ل : عبدالرحمن عرفة
قرأت منذ مدة أحد الأبحاث العلمية التي ناقشت السبب الدافع لكون الإنسان العاقل هو المستوطن الرئيسي لكوكب الأرض، ولا يوجد أحد ينافسه على وطنه الأزرق الصغير هذا.
البحث نُشر في مجلة “Scientific American” تحت عنوان “The Most Invasive Species of All”، وقد توصل فيه الباحث إلى نتيجة مفادها أنّ هيمنة الإنسان العاقل على كوكب الأرض تعود لسببين رئيسيين، أولهم هو قدرته على صنع أسلحة قذف متطورة، والسبب الثاني هو تعاون الإنسان مع أفراد غرباء لا يعرفهم أو يقربهم أبدًا.
صحيح أنّه في الوقت الحالي الجميع يتعاون مع الجميع من أجل سحق الجميع، إلّا أنّ الأمر كان مُختلفًا قبل ملايين السنين. فنزعة التعاون مع الغرباء هي التي جعلت من الإنسان العاقل السيد السائد المتربع على عرش الرئيسيات في قمة شجرة الحياة.
لكن ماذا لو تحول الشعور مع مَن تعاونا معهم وعرفناهم مِن أصدقاء إلى غرباء فجأة؟ أو بمعنى أدق، ماذا لو اختفوا من حياتنا؟
ظهرَ في علم النفس مؤخرًا مصطلح جديد يدعى “التشبّح Ghosting”، ويُستدل به للإشارة إلى حالات اختفاء بعض الأشخاص من حياتنا بدون سابق إنذار أو تنبيه!
ليس هناك داعٍ للإسهاب في شرح المصطلح لأنّه يشرح نفسه بنفسه، كما أنّي أخمن أنّ معظمكم قد لمسَ هذا الشيء في حياته الواقعية، وقد مر بحالة تشبّح أحدهم واختفاءه، ولا سيما إن كان من الدائرة القريبة الضيقة في حياته.
ما السبب في هذا الانسحاب؟ ما السبب في كرهك لصديق فجأة رغمًا أنّك كنت تحبه؟ ما السبب في انقلاب مشاعركِ تجاه صديقتكِ من الإيجاب للسلب بدون سبب؟ ما السبب في انسحاب بعض الأشخاص من حياتنا بدون إشارة أو إنذار حتى؟
لا مزيد من عبارة ما السبب، دعنا نضع نقطة هنا. ولنبدأ بمعرفة ما الذي يحصل حقًا في مثل هذه الحالات.
لقد عبروا الخط
في حياة كل إنسان كثير من الخطوط الحمراء التي يتوعد بالويل كل مَن يحاول عبورها. لكن معظم هذه الخطوط الحمراء التي حلف صاحبها أغلظ الأيمان بأن أحدًا ما لن يعبرها، تُصبح ممسحة من شدة عبورها واجتيازها والدوس عليها أيضًا.
كل هذا لن يولد عندك إلّا مشاعر الغضب والسخط، أمّا التشبّح – التحول إلى شبح – واختفاء البعض من حياتك لن يكون نتيجةً لعبور هذا الخط الأحمر الموجود عند الجميع، بل نتيجة لعبور خط آخر ليسَ أحمر. خط من نوع مخالف لا لون له أبدًا، يمكن تعريفه بأنّه خط “مسافة” وليسَ خط لون!
دعنا نتخيل من منظور علوي أنّ حول كل إنسان ثلاث دوائر تحيط به: الأولى منهم الأبعد مخصصة للصديق غير المقرب، ذلك الذي تقتصر العلاقة معه على عبارة صباح الخير أو مساءه، أمّا الثانية فهي مخصصة للصديق العزيز والذي غالبًا ما يكون صاحب ظل خفيف مَرِح القلب، وعندما أتكلم عن خفة الظل فإنّي أقصد ذلك الذي يُطلق دعاباته التي تكاد تفجر شريانك الرئوي لشدة سماجتها.
أمّا في الدائرة الثالثة، فالجميع يظن أنّ فيها أقرب الأقرباء وأعز الأعزاء وهذا خاطئ تمامًا؛ لأنّ هذه الدائرة يجب أن تكون فارغة من أي أحد! وإن كان هناك أحد ما قد تجرأ وعبر الخط وبقيَ فيها فهو أنت فقط!
السبب في أنّ بعض الأعزاء يختفون فجأة، هو دخولهم لهذه الدائرة وعبور ذلك الخط الذي لا يجب عبوره، لأنّ هذه المنطقة غير مخصصة لأحد. لذلك، من الطبيعي أن يذوب كل مَن يدخلها ويتحول إلى شبح كونها أساسًا غير مُهيأة للاستقبال.
حالة شبيهة جدًا بالوقوف أمام لوحة بارعة الجمال، كالموناليزا أو عذراء الصخور مثلًا. من مسافة ما ستراها جميلة، وعندما تقترب أكثر ستبدأ برؤية شحوب الألوان، وعندما تتقدم أكثر ستجد بعض الفجوات، وعندما تلتصق بها بشكل زائد عن اللزوم ستصبح غير قادر على الرؤية إطلاقًا.
تحوّل صديقك من عزيز إلى شبح يعود لأنّه عبر خط ودخلَ منطقة غير مهيأة لاستقبال أحد، فاقترب أكثر من اللازم. لذلك، ذاب تلقائيًا فورَ دخوله ولم يعد له أثر. لربما الأمر مثير للاستغراب أكثر من كونه مؤلم، لكن الآن قد أصبح سبب حدوثه واضحًا أمامكم.
فإنّ تشبّح أحدهم من حياتك فها أنت صرت تعرف السبب، وإن كان لديك صديق عزيز فحاول ألّا تجعله يعبر الخط وألّا تعبر أنت خطه أيضًا كي لا تذوبا في منطقة غير مؤهلة للسكن.
مِن الحب إلى الكراهية
أصبح من الواضح الآن السبب في تشبّح البعض واختفائهم، لكن ما الذي من الممكن أن يجعل البعض ليسوا أشباحًا فحسب، بل أعداءً مكروهين أيضًا؟ نكرههم ويكرهوننا ولربما يتوتر الأمر ليذهب أبعد من هذا بكثير!
التفسير وراء هذه الكراهية يكمن في أهمية الشخص، إذ أنّك غالبًا ما كنت تُريد أن تحبه أكثر، لكنه قد عبر بعض الخطوط غير المؤهلة للعبور، فاختفى من حياتك، فتحقد أنت عليه لأنّه استغبى بفعلته هذه! يمكن القول أنّ هذه الكراهية والرغبة في تمزيق ذلك الشخص ناجمة من توق قديم لحبه بشكل أكبر، لكن الأمر قد فشل وبالتالي تحوّل لكره.
لعلَ فيما قاله مصطفى صادق الرافعي دليلًا قويًا على مصداقية هذا الكلام عندما عبّر في أحد جمله قائلًا بأن: “الحب الحقيقي هو الذي يحمل في طياته شيئًا من الكراهية”.
لو تشبّح أحدهم ولم تبالِ به فهذا يدل على سطحية العلاقة والمشاعر التي كانت متبادلة فيما بينكم، لكن لو تحوّل هذا الاختفاء إلى غضب وكراهية “مضبوطة” فهو دليل على رغبة قديمة في إنشاء علاقة وطيدة معه، إلّا أنّ هذا لم يحصل بسبب عبوره الخاطئ فتظهر هنا بدورها الكراهية لكي تلومه.
يكمن الحل في القلعة
الإنسان الضعيف هو ذلك الذي لا يمتلك قلعة شخصية خاصة به، أو لربما يمتلك واحدة إلّا أنه قد أعطى مفتاحها للجميع، بحيث يدخلون ويخرجون متى يريدون بغير سؤال أو استئذان حتى.
ولو أردت أن تعرف سر الأقوياء، لكان هو أنّهم منعزلون في قلاعهم الشخصية التي شيّدوها بدون أبواب أو أقفال، لأنّهم بنوها على أساس أنّها لهم وحدهم فقط! لذلك يستحيل على أي أحد أن يدخل أو يقترب منها حتى!
سواءً كانوا أصدقاء أم أقرباء أم عائلة. هؤلاء أعزاء حتمًا، تحبهم ويحبونك، لكن هذا لا يمنحهم الإذن لدخول تلك المنطقة غير المُخصصة لأحد أن يدخلها. وكل مَن سيحاول الدخول سيكون مُهددًا بالتشبّح والذوبان بشكل كامل وبدون إنذارات أو إشعارات.
هل تعلم أنّ هناك بعض الأشخاص يتمنون لأهاليهم الموت بسبب رغبتهم وإصرارهم الجامح في دخول هذه القلعة وهدمها على رؤوسهم! فكان لا بد من كرههم لأنّهم يحاولون تمزيق الشخص من خلال هدم المكان الوحيد الذي يجد نفسه فيه! هذا بالنسبة للأهل فكيف إذن بصديق يحاول الدخول؟ فكيف بحبيب يحاول ذلك أيضًا؟
احترموا المسافات بينكم وبين الناس، احترموا قلاع الآخرين، حافظوا على أماكن خاصة بكم لا يسهل على أحد ولوجها، أماكن تشكل دعم ومرتكز لشخصيتكم في معترك الحياة بشتى فروعها. لربما ستضطر للانعزال والانطواء في ذلك المكان الآمن الذي أنشأته، إلّا أنّه أمر إيجابي وليِسَ سلبي. فالانطوائية نقطة قوة أكثر من كونها نقطة ضعف.
دعني أذكرك هنا بكلمات العملاق دوستويفسكي في لياليه البيضاء عندما تكلم من داخل قلعته الشخصية الحصينة قائلًا: “لم أتوله بأحد، وإنّما تولهت بالمثل الأعلى الذي رأيته في أحلامي، فأنا أخلق في أحلامي روايات بأسرها!”.
دوستويفسكي هنا تنازل عن المثل الحقيقية وأبطال الواقع، واستبدلهم بأبطال ومثل قلعته الشخصية التي يعرفها هو فقط والتي كانت في أحلامه، فاصنع أنت قلعتك الخاصة أيضًا، وانشئ فيها عالمك الخاص وأفكارك التي آمنت بها.
وحافظ على مسافة الآخرين منك، واجعلهم يحافظون على مسافتك أيضًا، فكما قال درويش بأنّ مَن يقترب كثيرًا مصيره الاحتراق، هنا علم النفس يقول بأنّ مَن يقترب كثيرًا مصيره أن يختفي ويذوب ويتحول إلى شبح!