الصحةعلم نفس

هل هناك علاقة عكسية بين الذكاء والصحة

ثمة مميزاتٌ لأنْ تكون ذكيًّا؛ فالأشخاص الذين يُحسنون الأداء في اختبارات الذكاء القياسية، المعروفة باسم اختبارات مُعامِل الذكاء، يغلِب أن يكونوا أكثر نجاحًا في الدراسة والعمل. وهم أيضًا يعيشون في الغالب حياةً أطول وأكثر صحة، ويقل احتمالُ تعرُّضهم لأحداث سلبية في الحياة، كالإفلاس، رغم أن أسباب ذلك ليست مفهومة بالكامل.

والآن، ثمة أنباء  للأشخاص الواقعين على الطرف الأيمن لمنحنى توزيع مُعامِلات الذكاء. ففي دراسة نُشرت مؤخرًا في دورية “إنتيليجنس Intelligence، أجرت روث كاربِنْسكي -الباحثة بكلية بِتْزَر- وزملاؤها، استبيان عبر البريد الإلكتروني، تتضمن أسئلةً عن الاضطرابات النفسية والفسيولوجية لأعضاء جمعية “مِنسا” .

تشترط منسا بوصفها “جمعيةً لذوي معاملات الذكاء المرتفعة” أن يكون أعضاؤها قد أحرزوا 98 في المئة فما فوق في مُعامل الذكاء. يعادل هذا معاملَ ذكاءٍ قدره 132 أو أكثر في معظم اختبارات الذكاء. (متوسط معامل ذكاء الشريحة العامة من السكان 100).

وجدت الاستبانة التي شملت أعضاء “منسا” شديدي الذكاء أنهم كانوا أكثر ميلًا للإصابة بمجموعة من الاضطرابات الخطيرة.
شملت الاستبانة الاضطراباتِ المزاجية (من الاكتئاب، وعُسر المزاج، وثنائية القطب) واضطرابات القلق (سواء كانت عامة، أم اجتماعية، أم خاصة بالوسواس القهري)، واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، والتوحُّد.

غطت الاستبانة أيضًا الحساسية البيئية، والربو، وأمراض المناعة الذاتية. طُلِبَ من المشاركين في الاستبانة الإفادة بما إذا كان قد سبق تشخيص حالاتهم من قِبَل متخصص على أنها أحد هذه الاضطربات أم أنهم اشتبهوا في الإصابة بها. مع بلوغ الردود نسبة 75%، قارنت كاربنسكي وزملاؤها النسبة المئوية للمشاركين البالغ عددهم 3,715 شخصًا الذين أفادوا بإصابتهم بأيٍّ من هذه الاضطرابات بالمتوسط القومي.

كانت أكبر الاختلافات التي لوحِظت بين مجموعة “منسا” وعموم السكان هي تلك المتعلقة بالاضطرابات المزاجية واضطرابات القلق.

فقد أبلغ أكثر من ربع العينة (26%) بأنه قد تم تشخيص حالاتهم من قِبَل متخصص على أنها اضطراباتٌ مزاجية، في حين أفاد عشرون بالمئة أنهم أصيبوا بأحد اضطرابات القلق، وهي نِسَبٌ تفوق بكثير المتوسطات القومية، إذ تزيد عنها بحوالي 10% في كلا نوعى الاضطرابات.

وفيما يتعلق بأغلب الاضطرابات الأخرى، كانت الاختلافات أقل، لكنها ظلت ملموسةً إحصائيًّا، وذات دلالة من الناحية العملية. وبلغت نسبة انتشار الحساسية البيئية ثلاثة أضعاف المتوسط القومي (33 بالمئة مقابل 11 بالمئة). ولإيجاد تفسير لهذه النتائج، اقترحت كاربنسكي وزملاؤها نظرية “النشاط الذهني المفرط لجسم مفرط الاستجابة للعوامل الخارجية”.

تفيد هذه النظرية بأنه رغم كل ما للذكاء من جوانب إيجابية، فإن كون المرء فائق الذكاء يرتبط بحالات “فرط القابلية للاستثارة” النفسية والفسيولوجية، أو ما يُعرَف اختصارًا باسم OEs، وهو مفهوم استحدثه الطبيب النفسي وعالِم النفس البولندى كازِيمِرْز دبرُوفسكى في ستينيات القرن الماضي، يُعرف بأنه ردة فعل عنيفة بشكل غير طبيعي لأي تهديد أو إهانة من الوسط المحيط.

يمكن أن تشمل هذه المثيراتُ أيَّ شيء، ابتداءً من صوت مُجَفِّلٍ إلى مواجهة مع شخص آخر.

يشمل فرط القابلية للاستثارة النفسية ميلًا مستفحلًا للاجترار في الأفكار والقلق، في حين ينشأ فرط القابلية للاستثارة الفسيولوجية من استجابة الجسم للإجهاد. ووفقًا لهذه النظرية، فإن هذين النوعين من قابلية الاستثارة أكثر شيوعًا بين الأشخاص فائقي الذكاء، ويتفاعل أحدهما مع الآخر في “دورة مفرغة” ليُسَبِّبا كلًّا من الخلل الوظيفي النفسي والفسيولوجي.

على سبيل المثال، قد يستفيض الشخص الفائق الذكاء في تحليلِ تعليقٍ مستنكر صدرَ عن رئيسه في العمل، متصورًا نتائج سلبية ربما لا تخطر ببساطةٍ على بال شخصٍ أقل ذكاءً.

وربما يحفز ذلك استجابة الجسم للإجهاد، مما قد يزيد الشخص قلقًا.

ويجب توخِّي الحذر عند تفسير نتائج هذه الدراسة؛ لأنها نتائج علائقية ولا تسبب إحداها الأخرى، فاكتشاف أن اضطرابًا ما أكثر شيوعًا في عينة من الأشخاص ذوي معاملات الذكاء المرتفعة مقارنةً بعموم السكان، لا يقطع بأن الذكاء المرتفع هو سبب ذلك الاضطراب.

فليس مستبعدًا أيضًا أن يكون الأشخاص الذين ينضمون إلى “منسا” مختلفين عن الأشخاص الآخرين في جوانب أخرى بخلاف معامل الذكاء. فمثلًا، الأشخاص المشغولون بالأمور الفكرية قد يمضون وقتًا أقل من الشخص العادي في ممارسة التمارين البدنية والتفاعُل الاجتماعي، وكلاهما أمران ثَبَتَ أنهما يعودان بفوائد جمة على الصحة النفسية والبدنية.

ورغم  ذلك، فإن النتائج التي توصلت إليها كاربنسكي وزملاؤها تهيئ المشهد لبحوثٍ تَعِدُ بإلقاء ضوءٍ جديد على الصلة بين الذكاء والصحة.

إذ يشير أحد الاحتمالات الواردة إلى أن الارتباطات بين الذكاء والنتائج الصحية تعبر عن “تعدُّد الأنماط الظاهرية”، الذي يحدث عندما يؤثر جينٌ معين في خواص لا تربطها به علاقة ظاهرة. وهناك بالفعل بعض الأدلة التي تشير إلى أن هذا هو الذي يحدث، ففي دراسةٍ نُشِرت عام 2015، استَنتَجت روزالِند آردِن وزملاؤها أن الارتباط بين معامل الذكاء وطول العمر يمكن تفسيره في الأساس بأنه راجعٌ إلى عوامل وراثية.

من الناحية العملية، ربما يقود هذا البحث في نهاية المطاف إلى تكوين استبصارات حول كيفية تحسين الصحة البدنية والنفسية للأشخاص. فإذا تبين أن فرط القابلية للاستثارة هي الآلية الكامنة وراء العلاقة بين معامل الذكاء والصحة، فإن التدخل عندئذٍ الموجه إلى كبح هذه الاستجابات غير التكيفية أحيانًا ربما يساعد الناس على الانخراط في حياة أكثر سعادةً وصحة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع