الإنكار هو الأسهل
نحن الآن فى عام 2020 والتلوث والحروب والمعاملات والمستوى الأخلاقى والدينى لا ينبئ بأن العالم سيستمر طويلٱ، ولا يزال البعض يظن حتى الآن أن أقوال علماء النفس خرفٱ وأحاديث الطب النفسى كلام فارغ، وأى تحليل أو تفسير أو فهم لسلوك أو فكرة أو تنبوء بها، وَهْم وغير ذات أهمية، وأن المريض النفسى هو مريض عقلى مهما كان مرضه النفسى ضعيفٱ وعلى إختلاف أشكاله، ويستحق أن يوضع فى مشفى الأمراض العقلية، ويخضع لجلسات الكهرباء كما كان يحدث فى الأزمنة الغابرة.
يتعاملون معه بشفقة مختلطة بتوجس مختلط بتمييز سخيف فى المعاملة مختلط بتهميش وتجنب قاتلين.
أعرف أناس كثر يدعون الفهم والإطلاع إدعاءٱ، وأنهم يعرفون أن المريض النفسى مريض مثل أى مريض، وسيشفى فى أغلب الأحيان ويعود لحياته وفى أحيان كثيرة يتوقف عن العلاج تمامٱ ويعود لحاله الأول قبل بداية مرضه وكأنه لم يكن، ولكنهم فى الحقيقة لا يفهمون شيئٱ ويتصورون أنه مجنون ومختل وأن علماء النفس مخرفون والأطباء النفسيون مرضى.
لا سيما إن ذكرت تحليل موقف أو سلوك أو فكرة صدرت عنهم، فأنت الآن فى مأزق ضخم، وأصبحت تستحق النعت بالخبل وقلة العقل، وأصبح كلام علماء النفس وبراهينهم مجرد كلام فارغ، أما سلوكياتهم فلا تخضع للتفسير أبدٱ مثل باقى البشر، فهم ليسوا مثل باقى البشر.
ترتبط هذه النظرة فى الغالب بمستوى فكرى وتعليمى وتربوي معين؛ يغلب عليه الكثير من قلة الإطلاع والإشتغال على النفس، يرون فى الغالب أن المريض النفسى ضعيف التدين أو واهن ويحتاج أن يقوى فى مواجهة الحياة، وكأن الأمر بيده.
أما ما يدرسه علماء النفس من خبرات وممارسات وذكريات وأفكار ومبادئ وما يؤثر فيها، وعواطف ودوافع خلف السلوكيات العدوانية منها والمسالمة وما يركزون عليه من إدراك الإنسان لمكونات الكون من حوله وما يميز شخصية عن أخرى وما يتغير ويتحول فيها بمرور الوقت، والتجريب ثم التجريب وتسجيل نتائج ومقارنتها بنتائج سابقة ومستقبلية، وفروع علم النفس ومجالاته من تربوى وإجتماعى، فسيولوجى وصناعى، معرفى وإكلينيكى، هندسى وتجريبى وغيرهم، لا يستحق إلا الإنكار.
فإنكارهم أسهل من الإعتراف بهم وتطبيقهم على كل تصوراتهم ودوافعهم وسلوكياتهم، فهم لا يستريحون لفكرة أن تكون أفعالهم وخياراتهم مكشوفة ومحللة ومفسرة من خلال قواعد العلم الذى لا يركز إلا على تحليل كل لفتة وكلمة وردة فعل.
إنهم يرون الحياة أفضل فى ظل فوضى لا يفهم فيها أحدٱ السر خلف أى سلوك أو موقف، ويحلل مبادئهم ويقيمها ويتنبأ بها.
فالحرية الغير مشروطة هى أكثر ما يرنون إليه أما تفسير تصرفاتهم فسيقيدهم ويضعهم تحت المجهر وهذا ما يخشاه كل من يخطئ وينوى الإستمرار فى الخطأ.
علم النفس علم مستقل ومن أهم العلوم وله قواعد وأصول ثابتة وقديمة ومبنية على تجارب متتالية ومحاولات إستمرت عقود وقرون، والمرضى النفسيين مرضى مثل كل المرضى، وقد أصبحت أعدادهم كبيرة لا يمكن إنكارها، مهما حاول محاولون إنكار دور علم النفس فى مساعدتنا فى فهم بعضنا البعض والتعامل فيما بيننا، وتحقيق الراحة.
أما معظم هؤلاء المنكرون أو المدعون بجنون المريض النفسى وفقدانه عقله؛ إنما هم المجانين ولكنهم لا يعلمون، فمن ينكر علم كلية، ويرفض أى تفسير لسلوكه، يحتاج بالفعل إلى مساعدة تبدأ بفتح عقله للعلم وتجاربه وما يتوصل إليه.