مقال من أنت لدكتور مصطفى محمود
من أنت.. حينما تتردد لحظة بين الخير و الشر.. من تكون..؟! أتكون الإنسان الخير أم الشرير أم ما بينهما..؟! أم تكون مجرد احتمال للفعل الذي لم يحدث بعد..؟!
إن النفس لا تظهر منزلتها و لا تبدو حقيقتها إلا لحظة أن تستقر على اختيار، و تمضي فيه باقتناع و عمد و إصرار، وتتمادى فيه وتخلد إليه وتستريح و تجد ذاتها.
ولهذا لا تؤخذ على الإنسان أفعال الطفولة، ولا مايفعله الإنسان عن مرض أو عن جنون أو عن إكراه وإنما تبدأ النفس تكون محل محاسبة منذ رشدها، لأن بلوغها الرشد يبدأ معه ظهور المرتكزات و المحاور التي ستنمو عليها الشخصية الثابتة.
واختيارات الإنسان في خواتيم حياته هي أكثر ما يدل عليه، لأنه مع بلوغ الإنسان مرحلة الخواتيم يكون قد تم ترشح و تبلور جميع عناصر شخصيته، و تكون قد انتهت ذبذبتها إلى استقرار، و تكون بوصلة الإرادة قد أشارت إلى الطابع السائد لهذه الشخصية. ولهذا يقول أجدادنا العبرة بالخواتيم.
ومايموت عليه العبد من أحوال، وأعمال ومايشغله في أيامه الأخيرة هو ما سوف يبعث عليه تماما كما ينام النائم فيحلم بما استقر في باله من شواغل لحظة أن رقد لينام.
ولهذا أيضا لا تؤخذ النفس بما فعلته وندمت عليه ورجعت عنه، ولاتؤخذ بما تورطت فيه ثم أنكرته واستنكرته، فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته وجوهريته و يدرجه مع العوارض العارضة التي لا ثبات لها.
وقد أعطى الله الإنسان مساحة كبيرة هائلة من المنازل والمراتب.
يختار منها علوا وسفلا مايشاء. أعطاه معراجا عجيبا يتحرك فيه صاعدا هابطا بلا حدود. ففي الطرف الصاعد من هذا المعراج تلطف وترق الطبائع، وتصفو المشارب والأخلاق حتى تضاهي الأخلاق الإلهية في طرفها الأعلى ( وذلك هو الجانب الروحي من تكوينه).
وفي الطرف الهابط تكثف وتغلظ الرغبات والشهوات، وتتدنى الغرائز حتى تضاهي الحيوان في بهيميته، ثم الجماد في جموده وآليته وقصوره الذاتي ثم الشيطان في ظلمته وسلبيته ( و ذلك هو الجانب الجسدي الطيني من التكوين الإنساني).
وبين معراج الروح صعودا ومنازل الجسد والطين هبوطا، تتذبذب النفس منذ ولادتها، فتتسامى من هنا وتتردى هناك بين أفعال السمو وأفعال الانحطاط، ثم تستقر على شاكلتها وحقيقتها ( قل كل يعمل على شاكلته ) (84 – الإسراء) . ومتى يبلغ الإنسان هذه المشاكلة والمضاهاة بين حقيقته وفعله فإنه يستقر ويتمادى، ويمضي في اقتناع وإصرار على خيره أو شره حتى يبلغ نهاية أجله. ومعنى هذا أن النفس الإنسانية أو ( الأنا ) . هي شيء غير الجسد. وهي ليست شيئا معلوما بل هي سر وحقيقة مكنونة لايجلوها إلا الابتلاء، والاختبار بالمغريات.
وماالجسد والروح إلا الكون الفسيح الذي تتحرك فيه تلك النفس علواً وهبوطاً بحثاً عن المنزلة التي تشاكلها وتضاهيها , والبرج الذي يناسب سكناها فتسكنه.
فمنا من يسكن برج النار ( الشهوات) وهو مازال في الدنيا، فلا يبرح هذا البرج حتى الممات، فتلك هي النفس التي تشاكل النار في سرها, وهي التي سبق عليها القول والعلم بأنها من أهل النار.
وذلك علم سابق عن النفوس لايتاح إلا لله وحده ، لأنه وحده الذي يعلم السر وأخفى، فهو بحكم علمه التام المحيط يعلم أن هذه الحقيقة المكنونة في الغيب التي اسمها فلان، والتي مازالت سرا مستترا لم يكشفه الابتلاء والاختبار بعد، والتي لم تولد بعد ولم تنزل في الأرحام . يعلم ربنا تبارك وتعالى بعلمه المحكم المحيط أن تلك النفس لن تقر ولن تستريح ولن تختار إلا كل ماهو ناري شهواني سلبي عدمي. يعلم عنها ذلك وهي مازالت حقيقة مكنونة لاحيلة لها في العدم.
وهذا العلم الرباني ليس علم إلزام و لا علم قهر ، بل هو علم حصر وإحاطة، فالله بهذا العلم لايجبر نفسا على شر، و لاينهى نفساً عن خير، فهو يعلم حقائق هذه الأنفس على ماهي عليه دون تدخل.
فإذا جاء ميقات الخلق ( وجميع هذه الأنفس تطلب من الله أن يخلقها ويرحمها بإيجادها وهي مازالت حقائق سالبة في العدم ) أعطى الله تلك النفس اليد والقدم و اللسان لتضر و تنفع، وأعطاها ذلك الكون الفسيح الذي اسمه الروح والجسد لتمرح فيه صاعدة هابطة تختار من منازله ما يشاكلها لتسكن فيه. فإذا سكنت واستقرت، وتسجلت أعمالها قبضها الله إليه يوم البعث والحساب المعلوم . حيث تقرأ كل نفس كتابها، وتعلم منزلتها فلا يعود لأحد العذر في أن يحتج بعد ذلك، حينما يضعه الله في مستقر الجنة أو مستقر النار الأبدية.
وقد أعذر الله وأنذر الجميع من قبل ذلك بالرسل والكتب والآيات، وأقام عليهم الحجة بما وهب لهم من عقل وضمير وبصيرة وحواس تميز الضار من النافع والخبيث من الطيب.
ولهذا حينما تطالب النفوس المجرمة في النار أن تعطى فرصة أخرى، وأن ترد إلى الدنيا لتعمل الصالحات، وحينما يدعي البعض أن تعذيب تلك النفوس أبديا على ذنوب مؤقتة ارتكبتها في الزمن المحدود هو أمر ظالم . حينئذ يجيب ربنا متحدثا عن هؤلاء المجرمين قائلا: ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون . ) (28 – الأنعام) .