لماذا يشعر الأذكياء بعدم الرضا
إذا كان الجهل نعمة كما يقال، فهل الذكاء يعني بؤساً؟ ذلك هو الشائع بين العامة. نحن نميل إلى الاعتقاد أن العباقرة قد ابتلوا بالقلق بشأن الوجود، وبخيبة الأمل، والشعور بالوحدة. تأمّل أحوال فيرجينيا وولف، أو ألان تورينغ، أو ليسا سمبسن – وهم نجوم عاشت وحيدة ومنعزلة، حتى عندما كانت تبهرنا بظهورها اللامع. وكما كتب إرنست همنغواي ذات مرة: “ما أعرفه هو أن السعادة لدى الأذكياء أمر نادر.”
ربما يبدو السؤال هامشيا ولا يهم إلا قلة من الناس، لكن قد يكون للرؤى المطروحة في هذا الشأن تداعيات بالنسبة للكثيرين.
يهدف الجزء الأكبر من نظامنا التعليمي إلى تحسين الذكاء الأكاديمي؛ ومع أن حدود ذلك معروفة، لا يزال اختبار “مستوى الذكاء” الوسيلة الأساسية لقياس القدرات المعرفية.
وننفق الملايين على طرق تدريب أذهاننا، وتعزيز القدرات المعرفية التي تحاول مساعدتنا في الحصول على مستويات أعلى من الذكاء.
ولكن ماذا لو تبيّن أن السعي للوصول إلى العبقرية هو في حد ذاته تفكير ساذج؟
بدأت الخطوات الأولى للرد على مثل هذه الأسئلة قبل قرن من الزمن تقريباً، في ذروة عصر “الجاز الأمريكي”.
وقتذاك، سحر الاختبار الجديد لـ “مستوى الذكاء” الكثيرين بعد أن أثبت نجاحه في مراكز تجنيد المتطوعين للحرب العالمية الأولى.
وفي عام 1926، قرر العالم النفسي لويس تيرمان، استخدام الاختبار لتحديد ودراسة مجموعة من الأطفال الموهوبين.
وجاب تيرمان مدارس كاليفورنيا بحثاً عن الصفوة من طلابها، ليختار 1,500 طالباً بمستويات ذكاء تبدأ من 140 فصاعدا.
وكان 80 طالبا منهم يتمتعون بمستويات ذكاء تجاوزت 170.
وقد أُطلق على أولئك الطلاب جميعاً فيما بعد اسم “النمل الأبيض”، ولا زالت نجاحاتهم وإخفاقاتهم تحت البحث والدراسة حتى يومنا هذا.
وكما يمكن لك أن تتوقع، فقد استطاع الكثير من طلاب فريق “النمل الأبيض” تحقيق الثروة والشهرة.
والجدير بالذكر أن الكاتب المسرحي جيسّ أوبنهايمر كان من بينهم، وهو كاتب كلاسيكي من خمسينيات القرن الماضي، ومؤلف “أحب لوسي”.
عند عرض مسلسله على قناة “سي. بي. إس.” كان معدل دخل أفراد فريق “النمل الأبيض” ضعف ما كان يحصل عليه موظفو الإدارات.
لكن، لم يحقق جميع أفراد المجموعة توقعات عالم النفس تيرمان bajilive betting، إذ امتهن العديد منهم مهناً “متواضعة” كضباط في الشرطة، وبحّارة، وكاتبين على الآلة الكاتبة .
ولهذا السبب، استنتج تيرمان أن “الذكاء والمآثر بعيدان كل البعد عن الترابط التام بينهما.” كما أن ذكاءهم لم يوفر لهم السعادة الشخصية. فطوال سنين حياتهم، كانت مستويات الطلاق، والإدمان على الكحوليات، والانتحار تبلغ تقريباً نفس معدلاتها لدى باقي المواطنين.
وفي الوقت الذي يصل فيه أفراد مجموعة “النمل الأبيض” إلى عمر الخرف، نجد أن العبرة من قصة حياتهم هي أن الذكاء لا يعني حياةً أفضل- ذلك ما أُعيد ذكره مراراً وتكراراً.
وفي أحسن الأحوال، إن ذكياً عظيماً لا يختلف أبداً عنك فيما يتعلق برضاك عن الحياة؛ وفي أسوأ الأحوال، قد يعني ذلك واقعياً أنك أقل منهم في هذا الأمر.
لا يعني هذا طبعاً أن كل من يمتلك نسبة ذكاء عالية هو عبقري معذّب، كما تشير إلى ذلك القصص الشعبية لبعض الشعوب، لكن الأمر محيّر بالفعل. فلم لا ينتفع الأذكياء بذكائهم إلى أمدٍ طويل؟
إحدى الاحتمالات هي أن إدراكك لموهبتك قد يصبح مثل عبءٍ يكبح تقدمك.
هذا ما حدث بالفعل.
فخلال تسعينيات القرن الماضي، طُلب من الأفراد الباقين على قيد الحياة من فريق “النمل الأبيض” أن يلقوا نظرة على الأحداث التي مروا بها طيلة الثمانين سنة التي مرت من أعمارهم.
لكنهم لم يتطرقوا إلى النجاحات التي حققوها، وبدلاً من ذلك، ذكر العديد منهم أنهم عانوا من الشعور بالفشل نوعاً ما لأنهم لم يرقوا إلى ما كانوا يصبون إليه عندما كانوا شباباً.
الشعور بذلك العبء، ولا سيما عند اقترانه بتوقعات الآخرين، أمر متكرر لدى الكثير من الأطفال الموهوبين.
ومن أبرز الأمثلة لذلك الحالة المحزنة لمعجزة الرياضيات صوفية يوسف، التي سجّلت اسمها لتدخل جامعة أوكسفورد وعمرها 12 ربيعاً، لكنها تركت دراستها قبل أن تكمل امتحانات التخرج وبدأت العمل كنادلة في مطعم.
ثم أصبحت لاحقا بائعة الهوى، حيث كانت تقوم بتسلية زبائنها بقدراتها على قراءة المعادلات الرياضية أثناء المعاشرة الجنسية.
هناك تذمر شائع آخر يكثر تداوله وسماعه في مقاهي الطلبة ومنتديات الإنترنت. مفاده أن للأذكياء من البشر رؤية أوضح للقصور الحاصل في أرجاء العالم.
ففي الوقت الذي يقلق فيه معظم الناس، وذلك بضيق أفق، بفكرة الوجود عموما، نرى الأكثر ذكاءً وهم يتألمون لمآسي البشرية أو لحماقات الآخرين.
في الحقيقة، ربما يدل القلق الدائم على الذكاء لكن ليس بالطريقة التي تخيلها الفلاسفة النظريون.
قام “ألكساندر بني” باستطلاع آراء الطلبة في جامعة “ماك-إيوان” في كندا حول العديد من المواضيع القابلة للنقاش.
وجد الكساندر أن من لديهم مستوى ذكاء أعلى يشعرون فعلاً بقلق أكثر خلال اليوم.
ما يثير الاهتمام هو أن أكثر الأمور المقلقة كانت دنيوية، تخص مشاكل الحياة اليومية. وكان الطلبة الأذكياء يميلون إلى فتح باب مناقشات حرجة أكثر من ميلهم لإثارة “تساؤلات كبيرة”.
يقول “الكساندر”: “لم يكن قلقهم أعمق. كل ما في الأمر أنهم يقلقون لأوقات أطول وبأمور عديدة. وإذا حصل أمر لا يُحمد عقباه، فإنهم سيفكرون به أكثر من غيرهم.”
وعند التحقيق بشكل أعمق، وجد “الكساندر” أن ذلك يرتبط بالذكاء اللفظى.
تم اختبار ذلك بألعاب الكلمات في اختبارات مستوى الذكاء، مقارنة بالبراعة في الألغاز المكانية (ويبدو في الحقيقة انها تقلل من مخاطر القلق).
يعتقد الكساندر أن تمتعك ببلاغةً أقوى تجعل لديك فرصة أكبر للتعبير اللفظي عن القلق والتفكير مليّاً به. رغم ذلك، ليست هناك أيّة مضرّة من ذلك.
ويضيف: “لعلهم كانوا يحلون المشاكل أكثر بقليل من أغلب الناس.” ربما يساعدهم ذلك في أخذ العِبَر من أخطائهم.
هناك حقيقة مرّة وهي أن وجود ذكاء أعظم لدى شخص ما لا يعني اتخاذه قرارت أكثر حكمة. في الواقع، هناك حالات تصبح فيها اختياراتك أكثر حماقة. قضى “كيث ستانوفيتش”، من جامعة تورنتو، العقد الماضي وهو يؤسس اختبارات حول العقلانية.
وجد ستانوفيتش أن اتخاذ قرارات منصفة وغير منحازة أمر منفصل إلى حد كبير عن مستوى الذكاء.
تأمل في مفهوم انحياز المرء لصالح نفسه، أو ما يعرف بـ “الانحياز لصالحي” – وهو ميلنا إلى أن نكون انتقائيين جدا في المعلومات التي نجمعها لكي تعزز من مواقفنا السابقة.
عندما تدخل في سجال ما، فإن النهج المتنور يفترض أن تهمل افتراضاتك جانبا، وأنت تقوم ببناء حجتك في المناقشة.
لكن ما وجده ستانوفيتش هو أن الناس الأكثر ذكاءً لا يختلفون عن البقية ممن لديهم مستويات معتدلة من الذكاء.
لم تنتهِ القصة هنا. لدى أولئك الأذكياء الذين يبدعون في الاختبارات المعرفية القياسية نسبة أعلى بقليل من “التحيز الأعمى”.
بمعنى آخر، لدى هؤلاء قدرة أقل على رؤية عيوبهم الخاصة، حتى عندما تراهم قادرين تماماً على انتقاد نواقص الآخرين.
كما أن لديهم ميلاً أكبر للوقوع في خداع ما يعرف بـ “مغالطة المقامر” – والتي تتلخص في أن من يختار أحد أوجه العملة المعدنية في المقامرة وتظهر العملة وجها واحدا لعشر مرات متتالية، فإنه يميل إلى اختيار الوجه الآخر من العملة في المرة الحادية عشرة.
وهذه المغالطة تدفع مقامري عجلة الروليت للخسارة ظنّاً منهم أن اللون الأحمر سيكسب بعد سلسلة من نجاح اللون الأسود.
كما يمكن لها أن تؤدي بالمستثمرين في الأوراق المالية أن يبيعوا أسهمهم قبل أن تصل ذروة قيمتها، ظنّاً منهم أن حظهم سينفد، عاجلاً أم آجلاً.
يميل البعض إلى الاعتماد على الغريزة الطبيعية بدلاً من التفكير العقلاني. لعل هذا يفسر سبب إيمان عدد كبير من أعضاء جمعية “مينسا” بالأمور الخارقة؛ أو لماذا تكون احتمالية تجاوز حدود إنفاق البطاقات البنكية الائتمانية هي الضعف لدى شخص بمستوى ذكاء 140 درجة.
في الحقيقة، يرى “ستانوفيتش” أن هذه النزعات موجودة لدى كافة فئات المجتمع. ويقول: “هناك الكثير من اللاعقلانية في عالم اليوم – يقوم الناس بأمور لا منطقية بالرغم من تمتعهم بذكاء أكثر من اللازم.”
ويتابع: “الأشخاص الذين يروجون لدى الآباء فكرة معارضة التطعيم (للرضع) وينشرون معلومات خاطئة عن ذلك على مواقع الإنترنت يتمتعون عموماً بذكاء وثقافة تفوقان الشكل المعتاد.”
من الواضح أنه يمكن للأذكياء أن يتعرضوا للتضليل بشكل خطير وأحمق.
حسناً، لا يوجهنا الذكاء صوب القرارات العقلانية والحياة الأفضل، فإلي أي الأمور إذن سيوجهنا؟ يعتقد إيغور غروسمان، الأستاذ بجامعة واترلو في كندا، أننا نحتاج لتغيير توجه أذهاننا نحو الفكرة القديمة التي تعرف باسم “الحكمة”.
قد يبدو ذلك النهج علميا بشكل أكبر للوهلة الأولى، ويعترف غروسمان بالقول: “لفكرة الحكمة أثر سماوي. لكن إذا ما نظرت إلى تعريف العامّة للحكمة، فإن الكثيرين سيتفقون على أنها تدل على شخص يمكنه أن يعطي رأياً سديداً، وبدون انحياز.”
في إحدى التجارب، عرض غروسمان على متطوعيه بعض المعضلات الاجتماعية المختلفة التي كانت تتراوح ما بين الموقف من الحرب في شبه جزيرة القرم، وبين المآسي التي يتفطر لها القلب والمعروضة في صحيفة “الواشنطن بوست” في عمود “العمة آبي”، أو “عمة العذاب” كما يسميها البعض، (حيث يعرض الناس مشاكلهم الاجتماعية لتقدم لهم العمّة ’آبّي‘ ما لديها من حلول).
وبينما كان المتطوعون يتحدثون، قام فريق من علماء النفس بتقييم منطقهم ونقاط ضعفهم: سواء كانت سجالاً يغطي جميع الجوانب، أو كان المتطوعون على استعداد للاعتراف بحدود معارفهم – أي “مستواهم الفكري المتواضع”، أو بأنهم أهملوا تفاصيل مهمة لم تصلح لرؤيتهم المقترحة.
تبيّن أن أصحاب الدرجات العالية في تلك التجربة أظهرو توقعات بأن لديهم رضا أكبر عن الحياة، ولديهم علاقات جيدة، والأمر الحاسم كان يتمثل في أن لديهم نسبة قلق منخفضة، وكذلك مستوى منخفض من التفكير العميق أو التأمل وهي كل الصفات التي يبدو أن الأذكياء التقليديين يفتقدون إليها.
وقد بدا أيضا أن التفكير الأكثر حكمة ينطوي على حياة أطول فأولئك الذين حصلوا على درجات عالية في تلك التجربة كانوا أقل عرضة للموت خلال السنوات التالية للتجربة.
ما وجده غروسمان يعد أمرا حاسماً ، وهو أن مستوى الذكاء لم يكن له علاقة بأي من هذه المقاييس، وبالتأكيد لم يتنبأ الذكاء بأية حكمة أعظم.
“قد يأتي الأذكياء، بسرعة فائقة، بحجج تدعم إدعاءاتهم بأنها صحيحة ولكنهم يفعلون ذلك بأسلوب منحاز جداً.”
ربما سيبدأ أرباب العمل، في المستقبل، في اختبار هذه القدرات بدلاً من مستويات الذكاء؛ إذ أعلنت شركة “غوغل” فعلاً عن خططها لاختبار المتقدمين للوظائف والذي يدور حول قدرات معينة مثل “الفكر المتواضع” بدلا من براعتهم المعرفية المحضة.
لحسن الحظ، ليست الحكمة مسألة جامدة مهما يكن مستوى ذكاؤك. يقول غروسمان: “أنا من المؤمنين بقوة بأنه يمكن التدرب على (اكتساب) الحكمة.”
ويشير إلى أننا غالباً نجد سهولة في إهمال انحيازنا عندما يتعلق الأمر بأناس آخرين، بدلاً من أنفسنا. وعلى هذا المنحى، فقد وجد أن التحدث عن مشاكلك باستخدام تعبير يدل على شخص آخر (“هو” أو “هي”، بدلاً من “أنا”) يساعد في خلق البعد الوجداني الضروري.
ويقلل هذا من المحاباة والتعصب لديك، ويؤدي بدوره إلى مناقشة أكثر حكمة. ويؤمل أن مزيدا من الأبحاث قد تتعرف على الحيل المماثلة.
التحدي الذي نواجهه هو أن نجعل الناس يعترفون بنقاط ضعفهم. إذا كنتَ قد استطعتَ الاعتماد على الأمجاد التي حققها ذكاؤك طوال عمرك، سيصعب كثيراً تقبّل فكرة أنها أعمت بصيرتك.
وكما قال الحكيم “سقراط”: لعل الشخص الأكثر حكمةً حقاً هو ذلك الذي يستطيع الاعتراف بأنه لا يعرف شيئا.