مافيش مكان ورا
كان الناس يسخرون من سائقى الميكروباص أو المينى باص الذى ينادى على الركاب بالمكان الذى سيذهب إليه، ومهما إمتلأت شاحنته يقول ( خش جوا العربية فاضية ورا ) !
وليس هذا من الواقع فى شئ، ولكن من مصلحته أن يدس الركاب دساً ويهرسهم هرساً ويقبض الثمن وهذا مبتغاه الوحيد !
هذا السائق على علم تام بسعة شاحنته وعلى علم تام بأنه ما من متسع للمزيد ولكنه لا يرى إلا مصلحته فى تحصيل المال ولا شئ آخر !
لو تصورنا أن الحياة الدنيا أو كوكب الأرض مثلاً وله سعة محددة ومعروفة للجميع، وهذه السعة تستوعب مقدار ما من الماديات بما فيها المخلوقات بأنواعها الإنسان والحيوان والحشرات والنباتات والجن والجمادات وغيرها، يحتاجون إلى مساحة للتواجد ويصلون إلى حد معين يستحيل بعدها دس المزيد فى نفس المكان، ويتوجب ساعتها الانتظار حتى نفرغ مكاناً أو يغادر أفراداً، وما من حلول أخرى أو اختيارات.
ولأننا نرى هذه الماديات من حيوانات وأشخاص وحشرات ونباتات فإننا نضعهم فى الحسبان ونشعر بوجودهم، ونصير مجبرين على تنظيم الوضع بما يستوعب الأعداد المناسبة فى ظروف مناسبة ونحاول الوصول إلى أأمن الأوضاع أو أفضل الأحوال.
ولو افترضنا نفس الافتراض أن الكرة الأرضية لها سعة ما للمعنويات والروحانيات والأحاسيس بأنواعها، سنعرف أن الكرة الأرضية ستتسع لقدر ما منها والمزيد منها لن يكون له مكان وسنضطر لانتظار إفراغ معنويات وروحانيات وأحاسيس قبل أن تغزو معنويات وأحاسيس أخرى !
ولكن لأننا نرى الماديات فنعمل لها حسابات ونرتب الأمور حسب تواجدها، ولأننا لا نرى الروحانيات والمعنويات لا نضعها فى الاعتبار، ونظل ندس منها كلما تأتى ولا ننظم الأمر كما كان الحال فى الماديات.
مع العلم أن المعنويات والروحانيات تحتل مكاناً كما الماديات بل وأكثر؛ ركز فى شعورك وأنت تجلس بجوار حبيب أو صديق مخلص أو زميل ودود أو جدّ طيب أو جدة حنونة وستشعر أن المكان كله يمتلئ بالحب والود والراحة والأمان وأن المكان متسع وبراح أكثر من حقيقته مادياً.
وركز فى شعورك وأنت فى نفس المكان مع زميل حقود أو أخ حاسد أو شخص غيور أو أنانى أو سيكوباتى أو سادى أو مسيطر وستجد المكان كله يعج بالقلق والاضطراب والتوتر والخوف والتوجس وكأنك تختنق من ضيق المكان مهما اتسع !
ولكننا لا نقيم للشعور وزناً !
هذا الكوكب الذى نعيش فيه أصبح ممتلئ عن آخره بالمعنويات الغير مرئية حسياً وإن كانت مرئية فى سلوكيات الأفراد وحتى الحيوانات.
نفترض إفتراض آخر وهو أن هذه المعنويات والروحانيات وهى طيبة وخبيثة، خيرة وشريرة، ممدوحة ومذمومة تتصارع على المساحات المتاحة للمعنويات بوجه عام، فالطيبة والخبيثة فى وعاء واحد؛ وهناك علاقة عكسية بينهما، كلما زادت الطيبة خبت الخبيثة وكلما زادت الخبيثة خبت الطيبة، فالسعة لا تتغير ولا تزيد ولكنهما يتبادلان ويتكيف كلاً منهما مع وجود الآخر، فيزيد بنقص الآخر والعكس .
يقول ابن خلدون: قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير.
ونحن أو معظمنا عن عمد أو عن جهل؛ نزيد هذا الخبث وندسه دساً ونقول ( لسه العربية فاضية جوا ) !
!
لقد وصلنا إلى قمة الزحام والجمهرة والتكدس؛ ما من براح، ما من فراغ لخبث جديد أو شر قادم !
يقول المهاتما غاندى : عدم التعاون مع الشر واجب لا يقل أهمية عن التعاون مع الخير !
هل نفعل ؟؟
يقول إدموند بيرك : إن الشئ الوحيد الذى يجعل الشر ينتصر هو أن يظل الخير ساكناً لا يفعل شيئاً.
هل نفعل شيئاً ؟؟؟
لقد تكدست الخبائث والسلبيات والدنس والمحرمات والرداءة إلى الحد الذى يستوجب ظهور النور !
إننا فى القاع منذ زمن، فى قاع الدنيا؛ فى قاع الدناءة هكذا سماها الله، وليس فقط فى القاع بل فى زحام أيضاً.
لقد اقترب النور، لأننا وصلنا لأعلى قمم الخبث والمتعارف عليه أن أعلى القمة يعقبه انهيار، وأن ما فى القاع يرتفع تدريجياً إلى القمة، وها نحن ننتظر أن نضع أنفسنا على جانب الصعود، وفى انتظار انحدار الخبائث التى ظلت على القمة لأزمنة متعاقبة وهى ثابتة لا تسقط ولا تتزحزح، بل تثبت أقدامها ونبثتها، وتسيطر ونمكنها من السيطرة !
فإما أن نفرغ الكثير من الاعوجاج ليتسع المكان للكثير من الاستقامة بإرادتنا، وإما سيتم ذلك تلقائياً، لأنه ما من أسوء !
( مافيش مكان ورا، هنروح ورا فين أكتر من كدا ؟) !!