مقالات نورا عبد الفتاح

لماذا بذلنا جهوداً فى الكلام

تعلم الإنسان البدائى الكلام والتواصل بمجهود مضنِ لسنوات وعقود وقرون، ليكون علاقات ويبنى صداقات ويقيم المودة، مع أنه بالطبع لم يكن يعلم أن الحياة بدون كلام وبدون تواصل لم تكن بهذا السوء.

فنحن الآن نتعلم بمجهود أكثر من مضن كيف نكف عن الكلام وكيف نكف عقولنا عن التفكير، الذى كان يحيا بهما الإنسان البدائى بالسليقة ولا يبذل لهما أى جهد، بينما اليوم يتعلم الناس من خلال كورسات وجلسات وقراءات كيف يكفون عن الكلام والتفكير ولا يفلحون.

ومادام الإنسان بدأ بعدم الكلام ثم عاد إلى النقطة ذاتها من الرغبة فى الصمت فلماذا تعلمه من البداية.
فالمهم فى الأمر هو قيام الحضارة والعمل، وهذان الشيئان كانا يمكنهما الإكتمال دون تفكير زائد ودون أحاديث ليلٱ ونهارٱ.

وحتى لا يكون الكلام غريبٱ دعونا نفترض أن التفكير والحوار توقف عند مرحلة الفراعنة المصريين، فالفراعنة كانوا أكثر منا إبداعٱ وعملٱ وتماشيٱ مع ركب الحضارة ولم يكونوا يكثروا التفكير الغير نافع ولا يتكلمون ليلٱ ونهارٱ فى ثرثرة لا تفيد بأى شئ.

أى أن الحوار والتواصل والأحاديث ليست هى دليل التحضر ولا حتى أداة لإتمامه، فقد كنا نستطيع إقامة حضارات وإنجازات دون الوصول إلى قمة التفاعل الإجتماعى والعلاقات المتشعبة والعميقة والمتشابكة والمتداخلة والإجبارية التى لا نجد منها مفرٱ ونهرب منها من فرط ما تسببه من إزعاج وتوتر وإضاعة للوقت والطاقة.

فحتى الإنسان البدائى كان يتعلم ويتواصل ويبدع دون كلام ودون علاقات مع الأباعد وأحيانٱ بلا علاقات البتة، وكان يعيش حياة هادئة وصحية ولفترات طويلة جدٱ.

وإن كان تعلُم الكلام والتواصل لم يُفِد، بدليل تسببه بإضاعة الجهد والوقت والطاقة، وإن كنا نعود فى كثير من الأحيان إلى نقطة قطع هذه العلاقات وبأسهل وأسرع الصور، فلماذا نعتبر تعلم الكلام وبناء العلاقات إنجاز بشرى، إن كنا الآن نسير فى عكس هذا الإتجاه الذى شعرنا نحوه بالفخر ؟

فالأخ يقاطع أخيه ويقول له ( متحضرش جنازتى) والجار يلقى جاره فلا يرد عليه السلام، وصداقات العمر التى استمرت لثلاثين وأربعين عامٱ تنقطع لخلاف فى رأى سياسى، وحتى الإبن يقطع علاقته بأمه أو أبيه لأسباب أكثر من تافهة…..فلماذا كونا هذه العلاقات إذٱ ؟وإن كانت علاقات بهذه القوة تنتهى إلى الأبد وبمنتهى السهولة فما بالك بعلاقات الزمالة التى تملأها الغل أو علاقات القرابة التى تملأها المشاحنات ؟

لو تصورنا حياتنا ونحن نعمل وننجز ونبدع بدون كلام ونستخدم لغة الإشارة أو نظرات العيون أو الكتابة أو نخترع وسيلة جديدة غير الكلام للتعبير فقد تكون أمورنا أهدأ وأكثر لينٱ وأقل ضجة وبعيدة عن الإزعاج، كما أن الأمر سيحتاج مجهودٱ من الشخص ليكتب أو يمارس لغة الإشارة فسيفكر 100 مرة قبل أن يعبر عن شئ، أما الكلام الذى يجرى على الألسنة بكل سرعة وسهولة، يجعل الأمر سهلٱ والحوار سهلٱ والكذب سهلٱ والنميمة سهلة والثرثرة والخوض فى الأعراض سهلٱ والصراخ والنداء بصوت عالِ سهلٱ والسباب والإهانة سهلة….

نقول أن الصخب والضوضاء منشأه من أصوات الآلات والأدوات والراديو والتليفزيون والسيارات والقطارات والطائرات، بينما الصخب والإزعاج الحقيقيى من أصواتنا نحن، وكلامنا نحن، وخلافاتنا نحن، وسوء أخلاقنا وسوء ردود أفعالنا نحن، بنظراتنا الحانقة الحاقدة وسلوكياتنا القبيحة.

الحياة بدون كلام ليست بهذا السوء ولا بهذه الصعوبة، واختراع الكلام ليس إنجازٱ رهيبٱ بل على العكس، إن لم يكن قد تم، لكنا إخترعنا طرقٱ بديلة، ربما ليست سهلة ولكنها بالتأكيد أفضل، ولكنا عشنا حياة أهدأ ومختلفة تمام الإختلاف عن كل ما سبب صعوبة فى الحياة هذه الأيام، لأن سهولة التواصل بين الناس ليست ميزة كبيرة لا سيما مع وجود أشخاص سيئين يقيمون علاقات مع سيئين فينتجون سوءٱ يشيع وينتشر.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع