من تخطوا السبعين
فكرة تضخم شعور كل من الرجال والنساء بأنهم مقهورين ومظلومين من الجبهة الأخرى؛ فكرة تترسخ وتستشرى وتتوغل كل يوم وفى كل مجلس ولن تنحل إلى الأبد لسبب بسيط جداً من وجهة نظرى وهو الإصرار التام لكل منهم على العيش فى دور من ضاعت حقوقه كلها وتم إغتصابها من الطرف الآخر، هذا الشعور فى حد ذاته يضخم الأزمة ويعقد العقدة فتصبح عقداً لا تنفك، فكلاً منهم يلهث وراء حقوق ليست حقوقه لإرضاء شعوره بالظلم فيظل يجمع حقوق من حقوق غيره حتى يشعر أنه يحقق لنفسه الأمان وينال حقه المغتصب ( اللى هو أصلا مش مغتصَب بس هو حاسس إنه بيتاخد منه طول الوقت )، فيظل يأخذ ويأخذ حتى يطمئن ولن يكف عن الأخذ ولن يطمئن !
لماذا ؟
لأنه يأخذ ما لا يحق له ليرضى وهماً فى عقله إسمه ( الجنس الآخر بجميع أفراده واخدين حقى ) !
فتدور المعارك والحروب الضوارى ولن يحل السلام !
أحب أن أجمع فى هاتفى الصور التى تجمع زوجين من كبار السن، لا سيما من تخطوا السبعين، أرى فيهم دائماً شخصاً واحداً، روحاً واحدة، تشارك بالمعنى الحرفى، يبنون ( حياااااااة ) بها تفاصيل وخطط وحرص وإنتباه للآخر ومساعدة وإتفاق وإنسجام غير مفتعل وإرتباط تلقائى غير متكلف؛ وأشياء أخرى جميلة تسمى فى مجموعها ( الحب ) !
لاحظت فى عدد لا بأس به من الأزواج والزوجات فى هذا الجيل عندما يتوفى الله واحداً منهما، يلحقه الآخر بعد أسابيع أو شهور قليلة تصل أحياناً من قلتها إلى شهرين أو ثلاثة أشهر، فالآخر يشعر أنه لا حياة له بدون الآخر، لأنهم عاشوا روحاً واحدة.
ليس الحب الذى يدعيه أغلب الأزواج والزوجات فى العقود الأخيرة، ( اللى احنا بنعمله ده مش حب ) نسميه إرتباط أو أسرة وأحياناً واجب ولكنه ليس حباً؛ أى حب الذى يبحث فيه كل طرف عن حقوقه ليطلبها كلها وعن واجبات الطرف الآخر ليخنقه بها ؟
كبار السن الذين تخطوا السبعين عندما يتحاكون عن أيام الشباب وبداية زواجهم مثلاً أو أى قصص عن حياتهم الزوجية لا يتحدثون أبداً بحنق أو غضب على الجنس الآخر، لا يحقرون منه أو يهينونه.
لم تذكر زوجة أن زوجها مغروراً أو أنانياً أو يترك لها مسئوليات المنزل أو إصلاح السباكة والنجارة والأجهزة والوقوف مع العمال، أو يطلب منها أن تربى الأولاد بمفردها لأنه مشغول فى عمله.
كان والدى يعمل منذ طفولتى مديراً مالياً لشركة كبيرة وهى مسئولية غير هينة، كان ميعاد ذهابه من الساعة السادسة صباحا وحتى الخامسة مساء ولفترات أخرى كان يعمل بالنهار وبالمساء أيضاً بفارق حوالى ساعتين، كان يقضيها معنا فى المنزل، ويأتى متأخراً ويذهب فى اليوم التالى وهكذا ولفترة ليست قصيرة انتقل لإجراء بعض الأعمال فى فرع الشركة فى طنطا، وعرض عليه أن يبقى فى سكن مجانى بجوار مقر الشركة إلى أن تنتهى هذه الفترة الطويلة فرفض وكان يأتى إلى البيت كل يوم من طنطا إلى المعادى بالقاهرة وننتظره للغداء حتى فى العاشرة مساءاً.
لم أسمعه قط يقول لأمى ( أنا مش ناقصكوا، أنا مش عايز وجع دماغ، أنا هاروح عند أمى، أنا تعبان فى الشغل ومش عايز قرف ) لم يشكو لنا من سفره صباحاً ومساءاً بشكل يومى، لم يشكو أزمة العمل التى اضطرته للتواجد فى طنطا لفترة طويلة، بل كان يجهز لنا سندوتشات المدرسة ويقوم أحياناً بكى ملابس المدرسة وتجهيز إفطار يوم الجمعة المميز جداً جداً، ويذاكر معنا دروسنا وبعد أن كبرنا أصبح يعد لنا جدولاً للمذاكرة حتى ونحن فى الكلية وهو لا يعلم شيئاً عن مناهجنا، كان يسألنى عن كم وحدة فى المادة وكم درساً فى الوحدة وما مقدار صعوبته وهل يستحق التقسيم على يومين أم يكفيه يوماً واحداً وهل نضع الدرس كذا لأنه سهلاً مع الدرس كذا لأنه صعباً ويخطط الجدول وألتزم به كل الالتزام.
لم يتفوه مرة واحدة بأننا نحمله تكاليف فوق طاقته أو أنه أهم من أمى لأن راتبه أكبر من راتبها، ولا أنه أعلى مقاماً لأنه الرجل والرجال قوامون على النساء والشرع محلل أربعة.
لم يكن يلهث خلف حقوقه ولم تكن أمى كذلك، لم أسمعها يوماً تقول (أنا عايزة أعيش حياتى، أنا مش هاعيش أغسل وأطبخ، أنا باشتغل زيى زيك، أنا عايزة مصروف لنفسى ) لم أشعر قط أن هناك معركة الرجل والمرأة فى بيتنا.
كنت أسمع حكايات جداتى وعماتى وجيراننا من كبار السن لم أسمع من أحدهم أى ذِكر للكلام الفارغ بتاع حقوق المرأة وحقوق الرجل.
كانوا جميعاً يتحدثون عن حياااااة مشتركة، حياة بالمعنى التفصيلى، فلا مكان للغيرة أو الأثرة أو المنافسة !
كان يخدم كلاً منهم الآخر فى مرضه ولا يشعر بالفخر بأنه يقوم بخدمة جليلة، كانوا يتحملون ضائقتهم المادية دون إفراغ غضبهم على الأبناء، كانوا يستمتعون معاً، فلا تكون المتع كلها مع الأصحاب، كانوا يمارسون علاقتهم الخاصة أضعاف المعدلات التى تمارسها الأجيال الحديثة ولا ينطقون بكلمة واحدة تشير إليها، أما الأجيال الأحدث فمع قلة ممارساتهم لا يكفون عن تداول الأفلام الإباحية ومقاطع الفيديو الجنسية ويتحاكون فى هذه الأمور أكثر من حكاياتهم عن أى أمر آخر، كانوا يطعمون بعضهم فى أفواههم كطقس يومى وليس فى الأعياد والمناسبات، كانوا يرون فى بعضهم جمالاً مهما كان الشكل، فلم يكن الرجال يقولون لزوجاتهم إنتى تخنتى أوى أو اصبغى شعرك أو انتى مبتهتميش بنفسك أو انتى مبتفهميش حاجة ولا بتعرفى تتناقشى فى أى موضوع ولم تكن الزوجات تقول ( بص لكرشك، مرتبك مش مكفينا، عيشنى فى نفس المستوى اللى أهلى عيشونى فيه، إنت مبتهتمش بيا، إنت أنانى ومتسلط، إنت زى قلتك).
لم يكن الرجال يعتقدون أن ذكورتهم ميزة لا تحتاج بجانبها إلى أى رجولة أو تحمل مسئوليات ولم تكن النساء تتصورن أن أنوثتها ميزة تجعلها تبيع وتشترى فى كل من يتقدم للزواج منها ثم تعيش فى دور الامبراطورة فتقول ( أنا مش هامسح وأطبخ ومش هاذاكر للاولاد أنا معنديش خلق، ومش هاشتغل ).
لم يكن الأزواج والزوجات يقتلون بعضهم البعض بمعدلات اليوم.
كانوا يبنون حياة مشتركة يعلمون أنها عبارة عن أسرة مكونة من زوج وزوجة وأبناء وبيت وليس كلاً منهم لا يفكر إلا فى حقوقه وفى واجبات الآخر ولا أحد يرتاح !
فى الجيل الأقدم كانت معدلات الطلاق تقريباً بنسبة 1:10 مقارنة بمعدلات اليوم وكان الزوج أو الزوجة الذى توفى الله شريكه فى الغالب لا يفكر فى زواج آخر، لأن نفسه وروحه ممتلأة بالآخر ولا مكان لغيره، أما الآن فأقلية هم من يشعرون بهذا الامتلاء، والبقية يفكرون فى الزواج فى أسرع وقت، فداخله فارغ يحتاج إلى الملئ !
فارق كبير بين من كانوا يبنون حياة وبين من يبنون أسواراً حول أنفسهم لضمان حقوقاً ليست حقوقهم.