يبقى فيه حاجة غلط
كان أول من أطلق هذا المسمى ( القطيع ) على هذا السلوك وصاغه كنظرية فلسفية علمية هو عالم الأحياء هاملتون وذكر فيها “إن كل عضو في مجموعة ما يخدم نفسه بالدرجة الأولى حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والسلوك بسلوكهم هكذا يظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة .حيث يتبع الفرد الأضعف أو الأقل نفوذاً أو مالاً من هم أقوى منه وأشد نفوذٱ”.
كما كان نيتشه دؤوبٱ فى البحث عن إنساناً متفوِّقاً خارجاً عن قانون القطيع، معرِّضاً روحه للفناء في سبيل نجاة هذا الإنسان، فمن هو الإنسان المتفوق؟
يقول نيتشه في وصف الإنسان المتفوق : ” أريد أن أعلّم الناس معنى وجودهم ليدركوا أن الإنسان المتفوق إنما هو البرق الساطع من الغيوم السوداء”.
الإنسان المتفوِّق هو الإنسان المحبّ للحياة ، والذي يستمد قوته من ضعفه، فالحياة عنده لا تتوقف مهما تعرض للنكسات.
الإنسان المتفوق هو الإنسان الجبَّار القوي الذي لا ترهقه الظروف مهما قست، وذلك بخلاف الناس العاديين الذين تموت بهم الحيوية لمجرد المرض.
فهؤلاء لا يؤمنون بالحياة، لذا تراهم يستسلمون للواقع القابع خلف إرادتهم، وهؤلاء حريٌ بهم أن يموتوا، لتخلو منهم الأرض، ولا ينجو سوى الإنسان المتفوِّق.
الإنسان المتفوق هو الذي يتجاوز ذاته، وليس شرطاً أن يحقِّق الإنسان تفوقه في ذاته نفسها، وهنا عليه أن يُهيئ الظروف المواءمة لإعداد التفوُّق في نفوس من سيأتي بعده من أجيال”.
فحديث نيتشه عن قيمة الإنسان المتفوق وهو الخارج عن القطيع تؤكد أن القطيع شئ منبوذ نبذٱ رهيبٱ من قبل أى إنسان يحاول أن يحفظ عقله فى وضع العمل.
وكلما انخفضت قدرة عقل الإنسان على العمل كلما انخفضت قدرته على الاستمتاع باستقلاله وفضل الانصياع فى قطيع، حتى أن بعضهم يبحث فى كل مكان تطأه قدمه عن قطيع ينضم إليه، فى العمل أو المبنى السكنى الذى يسكنه أو حتى فى العائلة وفى أى مكان يبحث عن الراعى والقطيع.
فالحياة من وجهة نظره وسط القطيع أسهل وأضمن وأكثر أمانٱ، والغريب أنهم يرونها أكثر سعادة، لأن مخالفة القطيع فيها من الصراعات والاختلافات ما لا يقوى أغلبهم على تحمله والعيش فيه.
أستطيع أن أعذر من يرفض الانصياع للحشد أو الجماعة، ويرى أنه من حقه أن يحرك عقله وقلبه ويحصل على طريقه الخاص الذى لم يسر فيه أحد من قبل، ويتصور النتائج ويحلم بالوصول لهدفه، فهذا حقه، لكنى لم أجد عذرٱ قط لمن أغلق عقله وقلبه وإستساغ الخضوع وسعِد بإلغاء كيانه وإختار اللا طريق واللا هدف واللا إختيار بمحض إختياره.
الكثيرون بل أغلب مجتمعاتنا، لا يدركون أنهم يسيرون فى قطيع من الأساس، بل هم قانعون أن لديهم فكرهم الخاص وخططهم النابعة من داخلهم، بينما هم سائرون مع الغنم والنعم وهم لا يدرون، ويتهمون من هو غير ذلك، لا بأنه خارج عن القطيع، بل بأنه مختل خارج عن المنطق والصواب، أو أنه عنيدٱ وسئ الطبع، أما فكرة أن توجهه مختلف، وأنه حر فى اختياره وسيدفع ثمنه بمفرده وعلى الجميع إحترامه، لا تكاد تظهر.
فكرة إلغاء التساؤلات والاستفسارات وإلغاء الحيرة اللذيذة التى قد تأخذ الإنسان إلى أماكن لم يعلم عنها أحدٱ، فكرة قاسية جدٱ وصعبة التقبل، فكرة تهميش الكيان وإلغاء الحوار وأن يصبح الاختيار الأوحد هو التقبل، فكرة قاتلة، فلماذا يفضلنا الله بميزة التفكير، فنرفضها ونختار لأنفسنا الأسوء ؟
سنندم وإن لم نندم، ( يبقى فيه حاجة غلط !).