إنهم يقدمون ما لا نقدمه
إن الذين يقدمون الرعاية الحقيقية لغيرهم؛ الرعاية المنطوية على الحماية والمتابعة والحرص والمراقبة بدأب واستمرار وليس لبعض الوقت ثم ( شكراً على كدا )؛ يستحقون التتويج بتيجان ماسية وأكثر.
إنهم يفعلون ما لا يفعله أحد !
يقدمون ما لا يقدمه أحد !
يزرعون فى أرض جدباء ويسقون عطشان فى الصحراء !
لا أتحدث عن الذين يدعمون ويهتمون ويرعون ويقرضون ويتابعون، ثم يهينون ويعيرون ويكدّرون ويتسلطون، ويفرضون ممارستهم على من حولهم فرضاً؛ بل أقصد الودودين القريبين من الصغير والكبير، أقوياء الشخصية لكن فى هدوء وتواضع، يصلحون بين المتخاصمين ويقفون معهم حتى تنتهى المعركة وليس كمن يقول ( كلمتين علشان يبقى اسمه اتدخل وخلاص )، يصفون الخلافات الزوجية بين أزواج وزوجات هذه العائلة، يفتحون بيوتهم لمن يترك بيته لخير أو لشر، يسألون على المريض حتى يشفى، (مش مرة كدا أداء واجب )، يقرضون كل من يحتاج قرضاً ( ولا يبالون ولا يعيّرون )، يستمعون لكل شاكى وباكى حتى لمن لا يحق له أن يشكو ويبكى، محبوبون من الجميع، يحسنون الاستماع ويقدمون النصيحة، ومن سحر شخصياتهم يطيعهم الجميع حتى الشباب والمراهقون المتمردون لأنهم لم يتسلطون قط.
ومن براعة هؤلاء أنهم يخلقون لأنفسهم دور الكبير فى المدن وليس فى القرى، فهذا الدور فى القرى أيسر بكثير ويقتنع به الجميع، ويستسلمون له، أما من يمارسونه فى المدن بعادات وأفكار المدن هم أناس بارعون حقاً وماهرون وعلى قدر كبير من الذكاء والإبداع والعبقرية والإستثنائية.
أنظر فى عائلتك وابحث عن كم فرداً فيها يمارس هذا الحرص والضمير، إبحث فى جيرانك وزملائك وحتى أصدقاء عمرك، ربما تجد واحداً أو اثنين وربما لا تجد !
أليس من واجبنا ومن حقهم أن نميزهم بيننا بتاجٍ ماسىٍ يليق بتميزهم، فهم مجاهدون طوال الوقت ضد الأنانية والأثرة وحب الذات التى تملأ الجميع، إلا من رحم الله، وتصور لنا جميعنا أن ( محدش ناقص، ومحدش فاضى ).
أنظر حولك بدقة وأرصد كم شخص يمارس معك حق الرعاية ويستمر على ذلك، فى الغالب لن تجد أحداً، وإن وجدت، فسيكون من تجده منهم يستحق تاجاً من الماس فوق رأسه، حتى نميزه بيننا.
إن كانت الكثيرات من الأمهات رمز الرعاية والحماية، تتملصن من فكرة الرعاية حتى مع أطفال فى عمر أيام وشهور، فما بالك بما نفعله نحن فيما بيننا ؟؟؟
شاهدت مقطع فيديو لأحد متخصصو العلاج التصنيفى؛ وإذا بقتاة تتصل بهذا وتقول أنها فى السنة النهائية فى أحد الكليات، وهى لا تحب الدراسة فى هذه الكلية وتتمنى تغيير المجال وأنها قلقة دائماً مما يؤثر عليها ويشعرها بالمرض، وشعورها بالمرض يزداد مع زيادة قلقها، وأنها تشعر بالوحدة وأن لا أحد يدعمها معنوياً.
فإذا بهذا المتخصص يرد عليها؛ ” إنتى معندكيش قلق، إنتى عندك عجز، وحتى لو غيرتى المجال هيفضل عندك نفس السخط على حالك، ومحدش هيدعمك نفسياً، لأن محدش فاضى لحد، إنتى شخصياً بتدعمى مين ؟ “
لم يكن رداً موفقاً من المتخصص على الإطلاق؛وإن كان كلامه للأسف صحيحاً.
كان أحرى به أن يكون هو الداعم النفسى الذى تبحث عنه الفتاة بدلاً من أن يؤكد لها مخاوفها من أنها وحيدة وتنقصها أموراً عدة لن تكتمل أبداً، ولكنه لم يفعل.
أتظن أن مثل هؤلاء منزهون عن المتاعب وأن حياتهم مرفهة وخالية من الهموم، على العكس تماماً فى الغالب ما تكون منغصات حياتهم أكثر من منغصات من يقدمون لهم الدعم الدائم ولكنهم إستمدوا طاقتهم من الله لتحمل أعبائهم وأعباء غيرهم، لأنهم عباد ربانيين.
اللهم اجعلنا منهم.
ستلاحظ أنهم جميعاً قريبون من الله، فما من أحد يستطيع تحمل أعباء غيره وتجنيب أنانيته وضعفه إلا بعون من الله.
أحياناً ما يقابل هذا الاهتمام بحسد وغل، حتى ممن تمارَس رعايتهم ولكنهم لا يبالون، أحياناً يقابل هذا الاهتمام بالجحود والإنكار ولكنهم لا يبالون.
فالطاقة التى يتحملون بها ذلك من الله، أنّى لها أن تنفد.