مقالات نورا عبد الفتاح

كفى شعور فالحماقة أربح

مقال اجتماعى

علمونا أن الفنان مرهف الحس، رقيق المشاعر، حسن الذوق فى اختيار الملابس والألوان وحتى الكلمات، من النادر ان تجد من هو ذو عنف لفظى أو جسدى، أحمق أو أرعن، فظ أو جاهل، وفى نفس الوقت فنان، إنما عادة ما يكونون دمثى الخلق، هادئى الطباع، يسلكون سلوك النبلاء، نفوسهم صافية لا يحقدون أو ينتقمون أو يحملون الضغائن، يشتركون فى صفات تخصهم عن بقية البشر، وأخص هنا بقولى المبدعين بوجه عام والرسامين بوجه خاص.

قدراتى الفنية فى الرسم محدودة للغاية تكاد تنعدم، ولكنى أتذوق هذا النوع من الفن واستمتع به وأشعر بالراحة والقرب تجاه اللوحات الفنية الجيدة، والتى تحمل الوضوح والانسانية المفرطة المختلطة باقتراب حس الفنان من حس المتذوق.

أستريح فى التعامل مع كل ذو نزعة فنية من أى نوع، وأشعر أنهم نظيفون من الداخل، لا أتوقع من أحدهم كذب أو مراوغة أو خيانة.

لذلك تعجبت بشدة عندما قابلت أحد هؤلاء الرسامون المتميزون، والذى لم أره منذ ما يزيد على الثلاث سنوات، وكان عهدى به كل ما ذكرت من صفات طيبة وسلوكيات نقية، ولكنه كان مختلفٱ هذه المرة اختلافٱ واضحٱ؛ كان يتعامل مع الحاضرين بانفعال شديد بأكثر مما تستحق المواقف، وامتلأت حكاياته بغل وحقد شديدين تجاه أصدقائه ومعارفه، وامتلأ حديثة بالنميمة وذكر عيوب الناس، وأصبحت ملابسه غير متسقة مع بعضها ولا مع الحذاء وساعة اليد وخلافه، وخالية تمامٱ من البساطة.

فتعجبت كيف أمسى غريبٱ هكذا مع أنه فنانٱ ورسامٱ متميزٱ ولوحاته التى عرفتها جميعها جميل بمعنى الكلمة.

ولكن لم يطل تعجبى؛ وجدته يعرض لوحاته الحديثة والتى أصبح عددها قليل جدٱ،مبررٱ ذلك بأنه يستعد لخلع عباءة الرسام وارتداء عباءة رجل الأعمال، رجل السوق والتجارة، وتدريجيٱ سيتوقف عن الرسم بشكل نهائى.

لم أفهم لماذا لا يحتفظ بالعبائتين ويبقى بصفاته القديمة التى أحببناه وعرفناه بسببها، ويختار بارادته أن يتحول من الفنان النبيل الكيس الحسن الطبع الى رجل الاعمال المادى الحقود الناقم الأرعن حامل الضغائن، وكأنه لن يتمكن من نجاح مشروعه الجديد إلا بالتخلص من صفاته القديمة وأشد ما سيساعده على ذلك؛ هو التوقف عن الرسم حتى يتوقف عن صفاته القديمة ويصبح أحمقٱ بجدارة متناسبٱ مع السوق.

صدق او لا تصدق؛ أن ماقصر تعجبى وأفهمنى الأمر؛ هو أن لوحاته الحديثة اختلفت كليٱ عن قريناتها القديمةمن حيث الروح وحتى من حيث الشكل النهائى والألوان، أصبحت لوحاته الجديدة تنطق بالرعونة والحماقة والمادة والتوتر، فهى هكذا تليق بصاحبها التاجر الجديد، لا بصاحبها الرسام القديم، لقد انتقل الاختلاف الكلى فى روحه وشخصيته الى اختلاف كلى فى روح وشخصية لوحاته، وفقدنا انسانٱ قديمٱ وكسبنا أحمقٱ جديدٱ.

بالطبع لا أعمم هذه الصفات السلبية على كل رجال السوق ولكنه ارتضى أن ينضم الى مجموعة منهم تجمعها هذه الصفات.

هكذا فهمت لماذا اختلفت لوحاته، ولكنى لم أفهم لماذا تحول هكذا فقط فى ثلاث سنوات ؟؟

لقد انتوى أن يغير هدفه، واختار ألا يكون إنسانٱ ذو حس مميز وشعور رقيق، يجلب له المتاعب، بل أن يكون أرعنٱ سئ الطبع، وكأنه يقول” كفى شعور فالحماقة أربح”.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع