أخبار العالم

الطبقة الوسطى واقتصادات الدول النامية والمتقدمة

فى عام 1851، استضافت بريطانيا المعرض الكبير لأعمال الصناعة من جميع الأمم لعرض أحدث الفنون، والصناعات والعلوم التى نتج عنها أسرع توسع فى الثروة وأكبر زيادة فى الفرص الاقتصادية شهدها العالم على الإطلاق.


كانت هذه هى الثورة الصناعية، حيث انتشرت التكنولوجيات الجديدة الإنتاجية بطرق لم تكن معروفة سابقاً، لكن فى الوقت نفسه كان هناك تغير ثورى آخر يعمل فى المجتمع البريطانى.


وبحسب تقرير مؤسسة «بيوتراست» لم يكن طبقة العالم القديم من الأرستقراطيين والحرفيين، والعمال مؤهلين لنهج العمل فى القرن الـ19. حيث كان هناك حاجة لكتابة العقود والفواتير حتى القروض المصرفية تدون، كما يجب التوسع فى الخدمات الحكومية، مثل السكك الحديدية ومكاتب البريد لخدمة الصناعة.


وظهرت وظائف جديدة مثل الكتبة الذين يمكنهم التدوين على الأوراق اللازمة، فارتفعت أعدادهم بشدة فى إنجلترا من 44 ألفاً فى عام 1851 إلى أكثر من 119 ألفاً بعدها بنحو 20 عاماً.


واحتاجت الثورة الصناعية سلالة جديدة من العمال على دراية بالقراءة والكتابة، وفهم العمليات الحسابية، وكذلك البقاء فى صحة جيدة بما فيه الكفاية للعمل بانتظام، وخلق ذلك هناك حاجة للمعلمين والممرضات، فنمت مهن كثيرة، وتطورت لخدمة التوسع الاقتصادى.


غيرت هذه المهن الجديدة الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، فنشأت الطبقة الوسطى، ولكن ليس من النخبة، ولا الطبقة العاملة، بل من تلك المهن مثل الكتبة وغيرها.


وبدأت العائلات تتعلم ثقافة الادخار والاستثمار فى المستقبل، فأقبلوا على تعليم أطفالهم، على أمل أن يتحملوا المسئولية لتحسين حياتهم وحياة أسرهم.


وكلما ارتفعت أعداد هذه الفئات استخدموا دخلهم للانغماس فى عالم الترفيه، والإجازات، والسفر، وشراء السلع ذات جودة أعلى، فخلقوا استهلاكا أكثر تنوعاً ففتح متجر هارودز فى عام 1849 أول فرع له لبيع الشاى والمواد التموينية لهذه الطبقة المتوسطة الجديدة.

وهذا ما فعلته الطبقة الوسطى فى الاقتصاد العالمى خلال القرنين الماضيين، فماذا عن القرن الحالى؟


إرتفعت أعداد العاملين من الطبقة الوسطى في العالم بما يصل إلى 400 مليون شخص خلال العقد الماضي محققة دفعة للنمو الاقتصادي والاستهلاك.

وبينت أرقام تقرير اتجاهات العمالة العالمية الذي أصدرته منظمة العمل الدولية أن 42 % من العاملين في الدول النامية وعددهم 1.1 مليار شخص ينتمون الآن للطبقة الوسطى ويعيشون مع أسرهم بما يتراوح ما بين 4 إلى 13 دولارا في اليوم.



   إحدى الطرق لفهم الأمر بصورة بسيطة هي تقسيم العالم إلى 4 فئات رئيسية: الفقراء المدقعون وأصحاب الدخل المنخفض والطبقة المتوسطة والأغنياء.

الفقراء المدقعون (الذين يعيشون على أقل من 1.9 دولار في اليوم)، يعانون من الحرمان الشديد، بما في ذلك الجوع والأمية والوفاة المبكرة للأمهات والأطفال.

أما أصحاب الدخل المنخفض (الذين يعيشون على ما يتراوح بين 1.9 و11 دولارا في اليوم) فقد نجوا من الفقر المدقع، لكنهم لا يملكون أي موارد إضافية لتعزيز إنفاقهم، وهم معرضون دائما للوقوع مرة أخرى في براثن الفقر، في حال تعرضوا لصدمات مثل البطالة أو المرض أو الجفاف.

أما الطبقة الوسطى (11: 110 دولارات في اليوم) فيمكنها عيش حياة كريمة، وتتمتع بأمان نسبي من الفقر المدقع، وتمثل الجزء الأكبر من فئة المستهلكين، كما يعتبر حجم الطلب لدى هذه الطبقة هو المحرك الرئيسي للنمو في معظم الاقتصادات.

وأخيرا، يوجد الأغنياء (110 دولارات فما فوق يوميا) ويعيشون في سعة، ويمكنهم عادة تحمل تكلفة أي سلع استهلاكية عادية.

المثير للاهتمام هو أن واضعي السياسات وأصحاب القرار وكذلك وسائل الإعلام، كثيرا ما يولون الاهتمام فقط بالنقيضين أو الجانبين المتطرفين: مكافحة الفقر المدقع، والحفاظ على رفاهية الأغنياء، ولكن ما يتغافل عنه هؤلاء هو أن أكثر من 90 في المئة من سكان العالم هم جزء من المجموعتين القابعتين في الوسط، حيث تحدث معظم الحركة بين المجموعات.

من هم أصحاب الطبقة الوسطى؟

“الطبقة الوسطى” هي مقياس نسبي ومفهوم مطلق إلى حد كبير، ففي الدول مرتفعة الدخل، أن تكون من الطبقة الوسطى يعني أنك تتمتع بما يكفي من الأمان المالي لتكون قادرا على التخطيط بأريحية للمستقبل.

أما في العالم النامي فيرى الاقتصاديون أن الأسر التي تنتمي للطبقة الوسطى، هي تلك التي تتمتع بدخل يكفيها من أجل النجاة من آثار صدمات، مثل البطالة والمرض، أو حتى إفلاس مؤسسة تجارية صغيرة، دون أن يتأثر مستوى معيشتهم، أو في أسوأ الظروف ينخفض مستوى معيشتهم ولكن بشكل مؤقت.

ويواجه المواطنون المنتمون إلى الطبقة الوسطى الكثير من القلق الاقتصادي، لكنهم في نفس الوقت لا يشعرون بالقلق بشأن قدرتهم على دفع إيجار الشهر المقبل أو قسط السيارة أو فاتورة بطاقة الائتمان.

في أمريكا اللاتينية مثلا، تشير الإحصاءات إلى أن الانتماء للطبقة الوسطى يتطلب دخلا يوميا يبلغ نحو 10 دولارات للشخص الواحد، أو ما يعادل نحو 10 آلاف دولار في السنة لأسرة مكونة من ثلاثة أفراد، ومن المرجح أن تشمل هذه الأسرة شخصا واحدا على الأقل، أكمل تعليمه الثانوي، ويعمل في مكتب أو مصنع أو في متجر براتب ثابت، بدلا من العمل في الزراعة أو الاقتصاد غير الرسمي.

واعتبارا من منتصف عام 2017، ينتمي نحو 3.5 مليارات شخص إلى الطبقة المتوسطة العالمية، ويسير مجموع هذه الطبقة على الطريق الصحيح لتخطي حاجز الأربعة مليارات نسمة بحلول عام 2021، و5 مليارات نسمة بحلول عام 2027، قبل أن يرتفع إلى 5.6 مليارات شخص بحلول عام 2030.

حجم الطبقة الوسطى العالمية ينمو بسرعة لم يسبق لها مثيل، ففي كل ثانية يدخل نحو 5 أشخاص إلى الطبقة الوسطى، وبينما يصعد الناس على سلم الدخل تتراجع أعداد أصحاب الدخل المنخفض بوتيرة متساوية تقريبا.

ديموغرافيا الطبقة الوسطى

قبل 25 عاما، لم يكن لدى أي بلد نام طبقات وسطى كبيرة أو متنامية، حيث كان معظم الناس في العالم لا يزالون يعيشون في أماكن يمكن وصف توزيع الثروة والدخل فيها بأنها ثنائي: تعيش نخبة صغيرة في راحة، في حين كانت الغالبية العظمى من الناس فقراء.

بالطبع، كانت هناك استثناءات، من بينها سنغافورة وكوريا الجنوبية وعدد من بلدان أمريكا اللاتينية التي بدأ التصنيع فيها قبل الحرب العالمية الثانية.

فبحلول عام 1990، شهدت كوريا الجنوبية 30 عاما من النمو الاستثنائي، ونتيجة لذلك، تمتع نحو 60 في المئة من سكانها بدخل سنوي قدره 10 آلاف دولار للأسرة الواحدة، وأصبحت كوريا الجوبية بالفعل مجتمعا من الطبقة الوسطى.

في أوائل التسعينيات، انطلق النمو الاقتصادي في العديد من الدول النامية، وسرعان ما تسارع خلال العقد الأول من القرن الحالي، حيث إن انخفاض معدلات الفائدة وازدهار السلع الأساسية أفاد العديد من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.

في الفترة بين عامي 1990 و2015، نجح نحو مليار شخص في الهروب من الفقر، من بينهم 650 مليونا من الصين والهند وحدهما.

وخلال نفس الفترة، دخل نحو 900 مليون شخص إلى الطبقة المتوسطة التي لا يقل دخلها اليومي عن 10 دولارات في اليوم.

خلال العقدين الماضيين، شهدت الطبقات الوسطى في تشيلي وإيران وماليزيا نموا استثنائيا لتصل نسبتها إلى نحو 60 في المئة من السكان، كما نمت هذه الطبقة في المكسيك لتصل إلى 40 في المئة، وفي بيرو لترتفع إلى 50 في المئة.

ومن المرجح أن يكون لهذا التغيير انعكاسات إيجابية على الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلدان الخمسة.


يستسهل كثيرون الحديث عن الطبقة الوسطى ودورها في التحولات الاقتصادية والمجتمعية، ويعزون التغييرات الحاصلة في المنطقة العربية إلى الدور الذي تقوم به تلك الفئة المجتمعية. وعلى النقيض من هذا «الاستسهال»، نجد من يجادل بأن الطبقة الوسطى اضمحلت وتغيّرت قيمها وبالتالي الدور الذي تلعبه في المجتمعات العربية. فهل نعرف حقيقة حجم تلك الفئة ودورها، وهل يجوز التعميم في المفاهيم بين الدول التي تفرقها العديد من المتناقضات؟

بداية لا بد من التعريج على تعريف محدد للطبقة الوسطى لتحديد الفئات التي نتحدث عنها، وفي هذا الإطار هناك مدرستان: الأولى هي التي يتقدمها علماء الاجتماع والاقتصاد في الولايات المتحدة والتي تركز على حجم الاستهلاك ومستويات الدخول، فالدخل يوظَّف كمدخل لتحديد الطبقة الاجتماعية، ثم تدرَس مؤشرات الفئات التي تحقق دخلاً يدور حول متوسط دخول الأسر، ولهذه المنهجية، فوائد أهمها القدرة على القياس ومقارنة الشرائح المختلفة لجهة الدخل.

أما المدرسة الثانية، التي يمكن وصفها بالأوروبية – الماركسية، فهي تأخذ عدداً من المتغيرات مثل التعليم، ونوعية العمل، وحجم الأسرة، ونوعية السكن، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية، ومستوى الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني. ويعتبَر هذا التعريف أكثر شمولاً لكنه يصطدم في الواقع العملي وكيف يمكن تصنيف الفئات المختلفة.

لا توجد دراسات مفصلة في الدول العربية تتعرض لقياس الطبقة الوسطى باتباع إحدى المنهجيتين هاتين، وهناك حالات قليلة قيست الطبقة الوسطى. ففي الأردن، مثلاً، حيث جرى القياس وفقاً لمنهجية مستوى الدخل والإنفاق، أثارت الدراسة التي أصدرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي قبل نحو سنة جدلاً واسعاً في حينه بين مؤيد ومعارض. وفي الجانب الوصفي كانت الدراسة التي أصدرها جلال أمين حول الطبقة الوسطى في مصر وما جرى لها على مدى عقود من الزمن، لكن دراسة مصر تلك لم تعرض حجم قياس تلك الطبقة وكيفيته وأسس التحولات المجتمعية.

وفي ظل أجواء التحول السياسي في المنطقة، باتت الطبقة الوسطى عنواناً مهماً، فالأمل متعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الفئات للتوصل إلى توازنات جديدة. وفي هذا الإطار، يجري الحديث عن الطبقات الاجتماعية وما يرتبط بها من توزيع للدخل من دون وجود معايير واضحة تمكّن صانع السياسة في الدول العربية من استهدافها والحفاظ على وضعها أو تحسين ذلك الوضع. ويركز معظم السياسات الاجتماعية المتداولة، على الفقر ومحدودي الدخل وسبل مساعدتهم. في هذه الأثناء تتعرض الفئات التي يمكن وصفها بـ «المتوسطة الدخل» للتناسي، وهي ليست بعيدة عن خط الفقر بالضرورة، لكن سلوكياتها الاجتماعية والسياسية ونمط استهلاكها الاقتصادي يجعلها في مصاف آخر.

ويتعلق النمط الاقتصادي الذي نتحدث عنه بطبيعة الإنفاق، مثلاً، أي كيف تنفق العائلات الدخل المتحقق وتقسمه بين الحاجات الأساسية مثل الطعام والشراب، والملبس والمسكن، وتخصص ما فاض عن ذلك للتعليم أو لأغراض الرفاه الاجتماعي والسفر. وطبيعي أنه كلما ارتفعت النسبة المخصصة للتعليم والترفيه، يصبح وصف الطبقة الوسطى أكثر دقة. وللتوصل إلى هذه التصنيفات، ثمة حاجة إلى كثير من البيانات التي لا تتيحها الدول العربية للباحثين الراغبين في دراسة أنماط الإنفاق في مجتمعاتهم، أو على الأقل، كانت هذه هي الحال إلى ما قبل «الربيع العربي» الذي كثر فيه الحديث عن الطبقة الوسطى ودورها، لكن من دون تحديد واضح عن أي الفئات الاجتماعية نتحدث.

وبالنسبة للدول العربية فهناك عدد من الحقائق التي ارتبطت بالطبقة الوسطى خلال العقدين الماضيين، تتعلق الأولى بتراجع دور هذه الفئات المجتمعية وزيادة الضغوط الاقتصادية عليها، والعديد من أبناء هذه الفئات تراجعت أحوالهم بفعل السياسات الاقتصادية التي اتُبعت منذ بداية عام 1990، تدلّل على ذلك زيادة أعداد الفقراء في العديد من الدول بدءاً من المغرب وانتهاء بمصر. كذلك لم يشهد توزيع الدخل في الدول العربية وفقاً للمقاييس الفنية التي توظَّف، تحسناً مرتبطاً بمستويات النمو، ما يشير إلى أن الهوة بين الفقراء والأغنياء في اتساع وأن الفئات التي تقع في المنتصف لم ترفع حصتها من الثروات في بلادها.

وليست واضحة في الدول العربية أسس التحولات المجتمعية والطبقية، فالتعليم الذي يعتبَر مفتاحاً لإحداث ذلك التحول، فقد دوره المهم، فالبطالة مرتفعة والدخول إلى سوق العمل لم يعد مدخلاً لإحداث ذلك التحول إلا في ما ندر من وظائف، لم يمكن للفقراء ومحدودي الدخل الاستفادة منها.


ويُعتبر تجميع تلك الفئات من خلال هيئات رسمية وتشجيعها على الانخراط في العمل السياسي، الخطوة الأولى تجاه إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى التي يتحدث عنها كثيرون، لكنهم يعزفون عن تحديد ماهيتها. كذلك سيؤسس تأمين ظروف العمل اللائق والحماية الاجتماعية اللازمة لنمط جديد من العلاقات بين أصحاب العمل والعمال والدولة والمجتمع. وبهذه الطريقة يؤسَّس لإعادة بناء الفئات التي تشكل عماد المجتمع وتشكّل أساساً للاستقرار وتفتح نوافذ التغيير.


مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع