مقالات نورا عبد الفتاح

إنتى إشفهمك فى الخِلفة وتربية العيال

معدل سيرى فى الطريق يجنح نوعاً ما إلى السرعة، وفى بعض الأحيان عندما أجد أب أو أم متعسفان مع أحد الأبناء لا سيما إن كان طفلاً، أو يصرخون فى وجهه أو يهينانه بشكل قاسِ أمام الناس، وأثناء مرورى السريع جداً بجانب هذا الأب أو هذه الأم قد أقول لهم جملة أو جملتين فى ثلاث أو أربع ثوان من نوعية ( معلش يا مامى، مش هيعمل كدا تانى ) أو ( معلش يا بابى مكانش يقصد ) أو جمل مشابهة وفى الغالب يشعر الأم أو الأب بالحرج وينهون الموقف، ولكن ليس هذا ما يحدث دائماً.

منذ عدة أشهر وفى أحد الشوارع لفت انتباهى على مسافة بعيدة، إمرأة شديدة الغضب وفى قمة الثورة على طفل لا يتخطى الأربع سنوات، وهى مستمرة فى الصراخ فى الشارع ونهر الطفل، وكلما اقتربت منهما كلما زادت ثورتها، وفجأة صفعت هذه الأم الطفل على وجهه فأفزعت المارة، وبدأت خلع نعلها لتضربه به، وكنت قد اقتربت منهما فقلت لها كنوع من إنقاذ الطفل من هذا الموقف الذى لن ينساه حتى وإن بلغ الثمانين؛ وبمنتهى الهدوء وبابتسامة ( معلش يا مامى، هو مكانش قصده، مش هيعمل كدا تانى )، وعلى الفور اقترب الطفل منى وكأنه سيختبئ خلفى منها مع أننى لم أكن أنتوى الوقوف وكنت ( هاقول الكلمتين وأنا معدية جنبهم كدا وخلاص )؛ توقعت منها أن تستفيق إلى أنها قدمت عرضاً طويلاً ومقرفاً على مسرح الشارع و( هتلم الدور وتاخد ابنها وتمشى )، ولكنها قالت لى ( إنتى إشفهمك إنتى يا آنسة بالخلفة وتربية العيال، سيبينى أربيه لو سمحتى، لما تخلفى وتجربى إبقى إتدخلى ).

لم أشعر بأى صدمة وكنت أضع إحتمالاً قوياً بأن ردها سيكون سلبياً أو مؤذياً، ولكن ما فاجئنى حقاً هو أنها تفترض أننى لا أفهم فى التربية لأننى أدافع عن طفل مخطئ وهو فى الرابعة من عمره بينما هى المتمكنة من قواعد التربية بصفع ابنها على وجهه أمام الناس فى الشارع.

وبالطبع لأن طريق النقاش معها مسدوداً تماماً وأن حديثى معها لن يجلب لى إلا الإهانة وربما الضرب ب ( الشبشب )، إضطررت إلى أن أخذل الطفل وأتركه لها وأمشى، لأنها للأسف أمه،
إن كانت ضربت إبنها الصغير على وجهه أمام الناس ولا تزال مستمرة فى إهانته، فهل ستحترمنى أنا ؟
ولكنى شعرت بالانتصار لأنها ولله الحمد إرتدت نعلها وتراجعت عن ضربه به واكتفت بالصراخ.

هذه الأم وتأخذها العزة بالإثم تذكرنى بأم أخرى رأيتها فى أحد محلات الملابس ويبدو عليها ( العقل والمفهومية ) تسأل ابنها عن لون البنطلون الذى سيشتريه والولد فى حوالى الثالثة عشر أو الرابعة عشر، وهو يقول لها ( مش عارف، هاتى أى واحد ) فتظهر الامتعاض ولا تجيب وبعد قليل أجدها تعرض عليه لوناً آخر وهو يرد نفس الرد ( ماعرفش، هاتى أى واحد ) أو ( قولى انتى يا ماما )، فانطلقت الأم كالقطار لتعطيه محاضرة من داخل المحل فى الإستقلال النفسى الذاتى وكيف يكوّن آرائه ومعتقداته ومذاهبه، وبطريقة شديدة العصبية قالت له ( مش ممكن كدا، لازم تختار انت، خلى عندك رأى ).

والولد فى منتهى الإحراج لأن صوت أمه عالياً ولا يوجد صوت فى المكان إلا صوتها، فحاولت إنهاء الموقف الذى يكاد الإبن فيه أن يغشى عليه من الحرج ويتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه، وأنا أوجه كلامى للولد  وأشير إلى أحد الألوان ( ده جميل، وشوف بردو انت عايز إيه، علشان انت اللى هتلبسه، مش كدا ؟  وعلى فكرة كلهم حلوين، هات أى واحد المرة دى وهات التانى المرة الجاية)، فقالت لى الأم كما توقعت ( لو سمحتى مالكيش دعوة، أنا عارفة أنا باعمل إيه )، فتركتهم وذهبت لابنى.

وعادت الأم تسأل ابنها نفس السؤال الرهيب ( هاه، هتاخد ده ولا ده ولا ده ؟، ها رد بسرعة، متفكرش كتير كدا، كل ده علشان بنطلون ؟ ).
فأجابها الولد بالموافقة على لون معين، وهو الذى نصحته به، فنظرت لى نظرة مرعبة وكأنها ستسخطنى ضفدعة بسحر من عينيها وكأنها تقول ( كدا بوظتيلى الأساليب التربوية الحديثة والعلمية التى أتبعها فى تربية إبنى يا حشرية ؟)

وبعدما تركت المكان وابتعدت قليلا وجدتها تقترب من ابنتى وهى لا تعرف أنها ابنتى وتسألها بشكل متكرر وشديد التكرار ليس مرة واحدة ولا اثنتين وإنما لعدة مرات وبمنتهى التردد ( أجيب ده ولا ده أحسن ؟؟؟؟؟)،
كنت أتمنى أن أعود لها وأقول ( ما انتى بتعملى نفس اللى ابنك بيعمله يا أم يا غريبة، جننتونا وجننتوا العيال).

والأمثلة كثيرة جدا.

الإهانة المباشرة للأبناء بالقول أو بالفعل أمام غرباء تعد من وجهة نظرى أسوء ما يمكن أن يقدمه أب أو أم لأبنائه، وهذه الإهانة المباشرة قادرة بمفردها على خلق إنسان مشوه نفسياً، جباناً، فاقد الثقة تماماً فى نفسه وفى أهله، مريضاً نفسياً مرض نفسى كامل يحتاج لعلاج، كاره للمجتمع وبلا هدف.

(كل ده علشان بيتهزأ قدام الناس ؟)
نعم، بكل تأكيد وأكثر من ذلك ! 

كم تمنيت أن أرى أول من قال ( التربية هى الأكل والشرب واللبس ) حتى أقتله وأخلِّص البشر من شروره.

لن أقول كلاماً مثل التربية شئ أساسى للجميع ولن أقول إن الأطفال أمانة وليسوا لعبة فى أيدى آبائهم ولن أقول أن أخطاء الآباء تستمر فى التأثير على الأبناء مدى الحياة وإلى الممات، وأكتفى بعرض نماذج قليلة جداً مما يقترفه الآباء فى حق الأبناء ثم يتعجبون من شباب وفتيات فاقدى الهوية وضعاف القرار ولا يصلحون لأى مهمة ولا يصلحون آباءاً أو أمهات ولا يقدمون ما عليهم من برّ لآبائهم !

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: يمنع النسخ من هذا الموقع